رحلة مع..التنين

رحلة مع.. التنين
انطباعات طالبة عربية في الصين
يارا المصري  
مدنٌ كبيرة.. مسافاتٌ وقرى.. وأغنية صينية تقول:
“في الشرق يوجد تنين
هذا التنين اسمه.. الصين”
شاء القدر في اليوم الثالث من شهر سبتمبر من العام الماضي ألفين وعشرة، أن أترك عائلتي ووطني ومدينة القاهرة التي ألفتها، لأذهب في رحلة إلى الصين، دامت نحو سنة، لدراسة اللغة الصينية، في إحدى جامعات مدينة جينان عاصمة إقليم شاندونج، على بعد خمسمائة كيلومتر جنوب شرق العاصمة الصينية بكين، لقد كانت تلك الرحلة حاسمة، في تغيير نظرتي إلى الصين، هذا البلد الشاسع بمساحته وتاريخه وكثافة سكانه، كما زودتني الرحلة بمعرفة وإن كانت متواضعة بالصين، التي تمد أذرع تنينها على الألفية الثالثة من حياة البشرية.
خلال هذه السنة استطعت أن ألمس، أو بالأصح أن أتعرف على الإنسان الصيني في معيشته وحياته اليومية، وبشكل عام، فإننا نجهل الكثير عن الإنسان الصيني، وحينما يأتي ذكره أو ذكر بلده، يبدأ الناس في التحدث عن المنتجات الصينية الرخيصة الثمن، والمتدنية الجودة، والتي غالباً ما تزيح منتجات نصنعها في بلداننا، كما يتحدث الناس خاصة في مصر، عن الباعة الصينيين، المنتشرين في الأسواق الشعبية، والذين قد يدق أحدهم بابك عارضاً عليك شراء بضاعته، لكن ما لا نعرفه أو نتجاهل معرفته، هو أن الإنسان الصيني يعيش كما يعيش الإنسان في بلدي أو في أي بلد آخر من العالم.. حتى أنه يصرخ مثلاً، ليدفع أحداً إلى الذهاب في الطريق الصحيح.. .. ..
كنت قد أنهيت إجراءات الدخول في الصالة رقم ثلاثة لمطار بكين، ومشيت بحثاً عن الطريق المؤدي إلى صالة استلام الحقائب، لم يكن ثمة صالة، بل مترو أنفاق، وخلفي كان عامل صيني.. ربما لاحظ حيرتي.. يصرخ طالباً مني الركوب، لم أهتم لحظتها أين يذهب المترو، وبعد دقائق استوعبت، أن المترو ينقل المسافرين إلى صالة استلام الحقائب وبوابات الخروج من المطار.
وهكذا بدأت أولى خطواتي في الصين، حيث شاهدت ماذا تعني كلمات مثل “الضخامة أو الاتساع” فكل مكان هناك، يتم بناؤه بتوسع وضخامة غير عاديين، بدءاً من عش الطائر وما حوله، إلى محطات القطار وانتهاءً بالمدارس والجامعات، كما أن الصينيين يحددون الأماكن والأشياء بالجهات الأربع “شمال، جنوب، شرق، غرب” وهو الأمر الذي أخذ مني بعض الوقت، لأتعود عليه، وإجمالاً، فإن الصينيين يتمسكون بفكرة “كلما كان أكبر، كلما كان أحسن وأفضل”
 لكن “الأكبر والأحسن والأفضل” لا يخفي التناقض الواضح، الذي يجعلك في حيرة من هذا البلد، الذي يمكن أن ترى فيه كل شيء، ترى الفرق الواضح للغاية بين المدن والقرى، والفرق الواضح جداً بين التقنية والتطور الهائل في مكان وغيابهما التام في مكان آخر، ترى الفرق في مستويات المعيشة، بين الفقراء وبين الأغنياء غنى فاحشاً، وبين العلم والجهل، وبين الانغلاق على الذات والتمسك بالعادات والتقاليد والتراث، وبين محاولة التخلص من الجِلد الصيني، إلى حد أن بعض الصينيين الذين يحاولون ذلك، يكونون مضحكين أحياناً، وتلحظ أيضاً الفرق بين الناس في مقاطعة وبين الناس في مقاطعة أخرى.. باختصار، ترى الصين الجديدة بتطورها وقوتها الاقتصادية، والصين القديمة المنغلقة على نفسها، وقد يوقعك هذا في حيرة وعدم فهم لهذه الحضارة وهذا التقدم.
من خلال معايشتي للصينيين في بلدهم، يمكنني القول إن الحضارة والتقدم الهائل والمتسارع في الصين، أحدثا أمرين في الإنسان الصيني نفسه:
الأول، لقد أصبح الإنسان الصيني “مبَرمجاً” ويمكن تشبيهه بالكمبيوتر، أنت تعطي الكمبيوتر الأوامر والبيانات ويقوم هو بالعمل، وإذا حصل خلل، فيجب أن تعيد إدخال البيانات من جديد، كذلك هو الحال مع أغلب الصينيين الذين تعاملت معهم في بلدهم، إنهم يتبعون لوائح من التعليمات والأوامر، فإذا اختل شيء ينظر الصيني إليك نظرة غريبة، أو يقول لك إنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً. 
الأمر الثاني، هو الفراغ الروحي، وربما عاش الصينيون أزمنة طويلة على اتزان روحي يستند إلى مبادئ كونفوشيوس، لكن التطور الهائل أخل بهذا الاتزان، وأقصد أن معظم الصينيين الذين تعملت معهم، لا يؤمنون بشيء، أو يمكن أن يؤمنوا بأي شيء إذا توافق مع رغباتهم وأسلوب معيشتهم، وأذكر هنا أن صديقة صينية سألتني عن الأديان السماوية الثلاثة “الإسلام والمسيحية واليهودية” حتى تختار من بينها كما قالت: ما يناسبها. 
على أن البلد الأسرع نمواً اقتصادياً في العالم، يعمل على طي المسافات الهائلة في داخله، وهذا يناسبه، في الزمن والمسافة.. .. ..
وليس غريباً في الصين، أن يسافر الناس في قطار لمدة عشر ساعات أو لمدد أطول قد تصل إلى يوم أو يومين، وكانت تلك في رأيي من أهم المشاكل التي تصدت لها الحكومة الصينية بنجاح، حيث بنت وتبني خطوطاً حديدية للقطارات فائقة السرعة، وبالرغم من حادث اصطدام قطارين من هذا النوع في مدينة “وينزهو” في شهر يوليو الماضي، إلا أن ذلك لم يمنع الناس من ركوب هذا القطار، والذي يعد الآن أسرع قطار في جمهورية الصين الشعبية، لقد أخذ بناء خط لهذا النوع من القطارات في ألمانيا نحو عشر سنوات، بينما بنته الصين في ثلاث سنوات فقط، ويقطع هذا القطار المسافة على سبيل المثال بين مدينتي “جينان وبكين”.. نحو خمسمائة كيلومتر.. في ساعة ونصف الساعة، بدلاً من خمس ساعات تقطعها القطارات القديمة، لقد قرأت خبر انطلاق هذا القطار الفائق السرعة في جريدة صينية، وأسرعت فوراً إلى حجز تذكرة إلى بكين، للاستمتاع بالتجربة، التي إن دلت على شيء، فإنما تدل على تحرك التنين الصيني بسرعة فائقة، متجاوزاً حدود وقوانين التطور، وجاعلاً جميع دول العالم متخوفة من هذا البلد العملاق.
يضعك تطور الصين الهائل في المستقبل تماماً، وتضعك آثارها في الماضي تماماً، لقد ذهبت مع زميلتي في الدراسة “كيريميت” من قرغيزستان، في رحلة إلى سور الصين العظيم، وبالرغم من أنها كانت رحلة متعبة، إلا أنني أستطيع أن أقول إنها كانت من أجمل الرحلات التي قمت بها في الصين.. عند دخولك بالباص إلى منطقة سور الصين العظيم، تنسى كل شيء، تنسى المدنية وتنسى التقدم والتطور، وتبقى مندهشاً بهذه الطبيعة التي أمامك، كأنك تعبر الحدود بين الواقع والخيال.. لقد كان هذا إحساسي، عند ذهابي إلى سور الصين العظيم، وهذا هو الإحساس الذي سوف يراودك عند ذهابك إلى الأماكن الأثرية والطبيعية في الصين.
لم تتح لي فرصة الذهاب إلى الأماكن والمدن الكبيرة في الصين، ولكنني استطعت الذهاب إلى العاصمة بكين بالطبع، ومدينة “تشوفو” مسقط رأس المفكر العظيم كونفوشيوس، حيث قابلت الكثير من الناس وتحدثت معهم، واستمعت إلى قصصهم التي تركت في داخلي أثراً حتى هذه اللحظة.
وكالعادة مع أي إنسان في بلد غريب، لا يخلو يومه من المواقف المضحكة، بل والمحرجة أحياناً، ولا يخلو أيضاً من المواقف التي بالرغم من تفاهتها، فإنها تساهم في فهم طبيعة هذا البلد وشعبه.. .. ..
كانت السنة الجديدة في الصين هي “سنة الأرنب” أو عيد الربيع، وكعادة أي شعب يستقبل عيده، قام الناس بتنظيم الاحتفالات وإطلاق الألعاب النارية، من الساعة السادسة صباحاً، مما حول مدينة “جينان” حيث كنت أدرس اللغة الصينية، ومدناَ صينية أخرى إلى مناطق حرب سمعية، لقد تعودت أن تكون أهم سمة من سمات الاحتفال بالأعياد في بلدي هي ازدحام الشوارع والميادين بالناس، ولكن في الصين، على النقيض تماماً، تتحول المدن الصينية إلى مدن انفجارات ألعاب نارية، وترى بعينيك مفهوم “يجب على كل شخص أن يعود إلى مكانه من حيث أتى” وتغلق جميع المحال أبوابها، حتى المطاعم، ولذلك أقدم نصيحة لكل من يريد الاحتفال بعيد الربيع في الصين، اشترِ طعاماً يكفي لمدة تزيد عن عشرة أيام حتى تنتهي الاحتفالات وتفتح المطاعم والمحال التجارية أبوابها.
نحو سنة كانت رحلتي مع التنين، وبالرغم من أنها كانت قصيرة، وأن تجربتي مع التنين كانت متواضعة، إلا أن الرحلة تشبه الفاكهة أو الطعام اللذيذ، الذي يبقى مذاقه في فمك، وكما تقول الأغنية الصينية:
“في الشرق يوجد تنين
هذا التنين اسمه.. الصين
في الشرق القديم
يوجد مجموعة من الناس
هم أحفاد التنين”
وإلى الآن، يستمر التنين وأحفاده بالتحليق حول العالم، ليترك أثراً على كل مكان ينزل فيه.
نشرت المقالة في مجلة الإعلام والعصر – يناير 2012

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.