حين أكتبُ اسمكَ بشكلٍ خاطئ

"رسائلُ حبٍّ بين الشاعر قو تشنغ وزوجته شِيَا يي"

 

حين أكتبُ اسمكَ بشكلٍ خاطئ

 

“رسائلُ حبٍّ بين الشاعر قو تشنغ وزوجته شِيَا يي”

 

ترجمتها عن الصينية: يارا المصري

 

في الثامن من شهر أكتوبر عام 1993 في جزيرة واهيكي في نيوزيلندا، أنهى شاعرٌ موهوبٌ حياةَ زوجتِه بوحشية مستخدماً فأساً، ثم أنهى حياته بالانتحار شنقاً.

كان “قو تشنغ” وزوجته الشاعرة “شِيا يي” قد تقابلا في القطار عام 1979، وتبادلا رسائل قبل زواجهما، كانت الرسائل في متنها بسيطة، إلَّا أنها عبَّرت عن عواطف جياشة بين الحبيبين، بحيث تجعلنا نتعجب من مصيرهما بالقتل والانتحار.

يُعتبر الشاعر “قو تشنغ” الذي وُلِدَ في الرابع والعشرين من شهر سبتمبر عام 1956 في بكين، من أهم الشعراء الصينيين المعاصرين، ومن جيل الشعراء الذين تأثروا بأساليب الشعر الغربي وشعرائه كبودلير وريلكه وغيرهما، وهو أحد مجموعة الشباب الذين ظهروا في الثمانينات وأطلقوا على أنفسهم اسم “الشعراء الضبابيون” ومثَّلهم الشاعر الصيني “بي داو” الذي رُشح لجائزة نوبل للآداب، ومع تأسيس مجلة “اليوم” أُتيحت للشاعر “قو تشنغ” فرصة السفر والتجول في أوروبا ليستقر في النهاية في جزيرة واهيكي في نيوزيلندا عام 1988.

قبل ذلك وفي عام 1969، نُفي والده إلى الريف أثناء الثورة الثقافية لمدة خمس سنوات كنوعٍ من إعادة التأهيل، حيث عاش الشاعر في عالم وتجربة مختلفين، ولعلَّ تجربته تلك كانت السبب الذي دفعه إلى كتابة الشِّعر، وقد بدأ كتابته في سن السابعة عشرة.

في الثامن من أكتوبر عام 1993 بلغت مأساة الشاعر “قو تشنغ” ذروتها، حين قتل زوجته “شِيَا يي” بفأس، ثم هرع إلى منزل أخته وأخبرها بما اقترفه، وبعدها شنق نفسه على شجرة. أما زوجته فقد وُلِدت عام 1958، وهي من بكين، وكانت محبة للأدب، وتكتب الشعر والنثر.

الزوجان المنتحر والمقتولة، تبادلا قبل زواجهما سبعةَ عشرَ رسالة، أترجم هنا ستَ رسائل منها، وإن صح التعبير أو التأويل، فإن هذه الرسائل، تحمل نوعاً من استباق المصائر بالحديثِ عنها، حتى أنَّ “شِيَا يي” تصف “قو تشنغ” قائلة: إنَّك شخصٌ غريب.


 

الرسالة الأولى: من قو تشنغ إلى شِيَا يي

لم أنتبه لوجودك حين كنتُ أشتري التذاكر، لكنِّي أظنُّ أننا كنا قريبين للغاية لأنَّ مقعدينا متجاوران. هل رأيتُكِ حين انطلقَ القطار؟ لقد كنتُ أتحدثُ مع أحدهم، وكأنني أهربُ من فراغ، من امتدادِ أشجارٍ منعشة. وحين وصلنا إلى محطة بكين الجنوبية جلسَ شخصٌ ما في مقعدِك، لكنكِ ظللتِ ساكتة، ووقفتِ إلى جانبي، فأحسستُ فجأةً بغرابة، وربما فكَّرتُ أن أقف، لكنِّي وقفتُ ثم ما لبثتُ أن جلستُ مرَّةً أخرى. بدأتُ الإحساسَ بكِ، بشعركِ الخفيفِ الهفهاف عند مؤخرةِ عنقِك. أمسكتُ القلمَ وشرعتُ في الرسم، رسمتُ شيخاً وطفلاً، زوجاً وزوجة، عاملَ مصنعٍ شاباً يجلسُ قبالتي وجهه مُفعمٌ بالبؤس، رسمتُ كلَّ شخصٍ حولك، لكنِّي لم أرسمْك. أشعرُ أنَّ عينيكِ برَّاقتان، تجعلُ نظراتي غيرَ ساكنة. ابتسمتِ إلى شخصٍ ما، وتحدثتِ بلهجةِ شنغهاي، وظننتُ أنَّ كلَّ مَن حولكِ أقرباؤك؛ أختكِ، عمتكِ، أو شقيقك الأكبر، لم أكن أعلم تحديداً.

غطَّ الجميع مساءً في النوم، وأنتِ إلى جانبي لم تنعسي، ولا أذكر مطلقًا كيف بدأنا الحديث، لكني أذكر أنكِ أجبتني بلهجة بكينية واضحة، وعيناكِ واسعتين جميلتين، عميقتين كأسماك خيالية، وخطُّ أنفك وطرف فمكِ لهما لمعانٌ كمعدن، لم أكن أعلم ما ينبغي عليَّ قوله، فقرأت لكِ شعّراً، وتحدثتُ عن أفلامِ وعن أحداثٍ في طفولتي. نظرتِ إليّ، وأجبتني، كان ثمة صدى لكل خطوة، ونسيتُ تماماً أننا كنا في ساعات قليلة ماضية غرباء تماماً، حتى أننا لم نحيي بعضنا، لكني أسمع صوتكِ، أعبر العالمَ الرقيق إلى صوتكِ، وأتبع عينيك، لكني أعود إلى تلك اللحظة، وكنتُ لا أزال أتأملُ الشعرَ الخفيفَ في مؤخرة عنقك.

مضى القطار في رحلته حتى الفجر، وارتفعت الشمس متمايلة على نهر خاي، وبدا وكأنني أفقتُ، مدركاً أن تلك اللحظات تتلاشى وتُفقَدُ الآن، وستصبحين وهماً خالداً بعد قليل. أما أنتِ ظللتِ مبتسمة، فغضبتُ منكِ، كنت أرى أنكِ الشخص الوحيد الحي في هذا العالم، أنكِ كبرتِ لتكوني أكثر حقيقةً مني. دوَّنتُ عنواني على قصاصة ورقية، وحين وصل القطار المحطة جمعتِ حقائبكِ في هدوء، ومشينا في الممر كلٌّ على جانب، ثم أعطيتكِ القصاصةَ ونزلتُ من القطار.

قو تشنغ ــ يوليو 1979

 


 

الرسالة الثانية: من شِيا يي إلى قو تشنغ  

إنّكَ شخصٌ غريب، أو كما يقول والدي: ربما شخصٌ مخادع، فحين دسست القصاصةَ في يدي، كانت تبدو عليك علاماتُ التهذيب والغضب، وقد فكرتُ في أسباب كثيرة لأراك، وسرتُ في طريق طويل على جانبيه أشجار الحور الأبيض، وطرقتُ بابك بخفة، وكانت والدتك مَن استقبلني، وبدت وكأنها تعلم أنني الطارقة، لذا رمقتني بنظرات متفحصة. من ثم خرجتَ أنت، وبدوتَ وكأنك لم تفق من نومك، والقلم الحبر الأسود معُلقٌ في جيبك، ولا ينبغي عليك أن تحدثني عن الفلسفة، فمنظر الملابس الملطخة بالحبر يثير الضحك، أردتُ أن أنبهك، لكني اكشتفت أن الجيب الآخر مُلطّخ كذلك، ففهمت أن تلك عادتك. تركتُ لك عنواني، وأخبرتك بطيش شديد عن موعدِ مغادرتي، وأوصلتني في ذلك اليوم، ولكننا لم نتحدث، كنا نعلم أن تلك هي البداية وليست الوداع.

هل ستكتبُ لي؟ قلت سأكتُبْ. كم ستكتب؟ فأشرت بيدكَ، ما يعادل روايتين طويلتين.

شياو[1] يي ــ يوليو 1979

 


 

الرسالة الثالثة: من قو تشنغ إلى شِيا يي

شياو يي:

استلمتُ صورتكِ على الجبل أثناء الإجازة الصيفية، كنتُ فرحاً، فرحاً للغاية، ونادماً، لِمَ لَمْ أذهب معكِ إلى تشيندي؟ الغروب على الباغودا[2] المزخرفة مفعمٌ بالحكمة، ويهب الكثير من الحيوات، وفي المغيب تغرق الطيور التي لا تعد ولا تحصى، وكأن العالم المضطرب ينتهي في تلك اللحظة، ولا يبقى غير الطبيعة، التاريخ الساكن، والأرواح الحرة. عيناكِ مفعمتان ببريق غروب الشمس، مثل اسمكِ، مثل سماء صحوةٍ، سأتأملكِ في صمت، لتشرق الحياة بالنور.

أقف عند مدخل تيان قوه مين، وأشعر بشيء من الذعر، تلك المرة الأولى التي تعلمني فيها الحياة الحذر، أما الحماس فقد دفع بالشجاعةِ إلى دمي.

لقد تقابلنا في محطة القطار، فهل ستظن والدتُك أنني شخص سيء؟

قو تشنغ ــ أغسطس 1979

 


 

الرسالة الرابعة: من شِيَا يي إلى قو تشنغ

قو تشنغ:

أشعرُ أنَّ مزاجي جيد اليوم، وبإمكاني أن أخبرك الآن أنني كنت مريضة، أصابتني الحمى بدوار لعدة أيام، إلا أنني أفضل حالًا اليوم.

كنت أقرأ أو بالأحرى كنت أسمعُ خطاباتك حين كنتُ طريحةَ الفراش، أو ربما أخذتُ روحكَ معي، أحياناً تتقمص هيئتك، وتقرأ لي قصائدك، وكأنني صبية تعيش قرب البحر، وتسمع غناءَ الحصى في أعماقه.

دفعتني رسائلك إلى رؤية المستقبل، وياله من مستقبل! لم لا نستطيع رؤية المستقبل معاً؟ أشعر وكأن السحب ارتفعت من أشجار الصنوبر، وأنت تصعد خطوة خطوة على سلم وأنا إلى جانبك، وأثق تماماً، أن هذا هو القدر، فالوقت الذي نمضيه معاً قصيرٌ للغاية، أمَّا القدر لا متناهٍ.

في تلك اللحظة ستهب الريح، وستبعثر شعري، وكأنها ستنفخُ روحي أيضاً لتحلق إلى السماء، كنتُ فرحة للغاية، وتَعِبة. أراكُ كلما أغمضتُ عيني، تبدو كأخ عزيز يقف أمامي، تأخذني بلباقة ونسير في الطريق، تقرأ لي أندرسن، وتقصُّ عليَّ حكايات جان هنري فابر، وتخبرني كيف تنمو الأعشاب على جانبي الطريق، وكم بقعةً على جسم الخنفساء، كنت تسير بحيوية، وكأن الشمال كله ملكٌ لكَ، أو ربما، تود العودة إلى حيث كنت ترعى الخنازير في صغركَ، وتسير في دوربٍ نصلتها مياه الأمطار، وتظهر الأحجارُ البِيضُ بصورةٍ جميلة، وعيناكَ تتأملها، تخترق السماء الهائلة، إلى الشرق، وتغسل دموعك المُرّة الأرضَ القاحلة، ويغمرُ الأرجاءَ مدىً من بياض، كالثلج، كالشتاء، هناك بالضبط كنتَ تسير، وتبتعد شيئاً فشيئاً، لأنك لا زلت تثق أن هناك شاطئ خلاص، تلمع أرضه بإشراقة حين يُلقي الفجر بنوره، أرض متعرجة، تعشعش داخل التواءاتها طيور وإوز، تحتضن رؤوسها تحت أجنحتها وتنام، أنت تنتمي إليها، بإمكانك التحليق، والعالم منعكسٌ في عينيك، أما أنا فلا يسعني إلا أن أستلقي، أستلقي مريضة على الرمال الحارة.

لا أريدكَ أن تنأى بعيداً، وقد خطر ببالي أن أغطي عينيك بيدي، ولا أفكر بفعل ذلك الآن، فقد يبعثُ في نفسي الارتباك والسأم.

لم يقل أحد إنك شخصٌ سيء، القطارات تروح وتجيء محملة بالناس، منهم الصالح والسيء، لكنك لست هذا أو ذاك، بل أنتَ شخصٌ فريدٌ من نوعه.

شِيَاو يي ــ أغسطس 1979

 

 


 

الرسالة الخامسة: من قو تشنغ إلى شِيَا يي

شياو يي:

فقدتُ السيطرةَ ما أن لمست يدي خطابَكِ، وأحاطني نغمُ غَيْمٍ دافيء، وكان العالمُ يشبه كاتدرائية يتردد صداها من بعيد، وأنت تطفين، وتقتربين قليلاً.

استيقظتُ مشحونًا بكراهية، كراهية تجاه نفسي، تجاه جسدي الضئيل البائس الذي جُذِبَ إلى الأرض، والتصقَ بإحكامٍ في شباكِ عنكبوت. ومهما كرهتِ الصراعَ والواقع، لا بد أن يقتربا منكِ، يجذبانِك، ويجعلانك تنأين عن أحلامك.

قو تشنغ ــ منتصف أغسطس 1979

 


 

الرسالة السادسة: من شِيَا يي إلى قو تشنغ:

قو تشنغ:

تغمرني سعادة لا أدري سببها حين أكتبُ اسمكَ بشكلٍ خاطئ.

بدأتَ تتحدث عن الحياة، تتحدثَ عنها بنبرةٍ كئيبة، وإذ أعلم أنَّ الحياةَ لا تخضع لإرادتنا، إلَّا أنني لستُ خائفة، لأنَّ ثمة قوة ما تُولد من الألم تدفعني إلى رفضه، وإلى أن أوصد البابَ بشدة، بالطبع، أتمنى ألَّا تكون خلف هذا الباب.

أنا لا أصدق الواقع على الإطلاق، بل أصدقك أنت، ويداهمني شعور أنني أفهمك أكثر بقليل ممَّا أفهم نفسي. هل تفهمني؟ هل أفهمني؟

لقد راودتني تلك الأفكار وأربكتني ذلك اليوم في محطةِ بكين للقطارات.

والآن أمد يدي لكَ.

شياو يي ـ أغسطس 1979


 

الرسالة السابعة: من قو تشنغ إلى شِيَا يي

شِيَا يي

إنك ترينني شخصاً طيباً للغاية، وهذا يسعدني ويقلقني في الوقتِ ذاته، لأنني في الواقع إنسانٌ تافه. أود لو أكون إنساناً طيباً، ذا قيمة، طيباً وذا قيمة، وأقصد بذي قيمة أولاً القيمة الداخلية؛ كتبتُ هكذا في صغري: سأسيرُ صوبَ الشمسِ لأغسلَ روحي، وبالإصرارِ والإرادةِ أطرحُ الظلالَ خلفي. إنَّ العيشَ ونحنُ مُحمَّلون بالإثمِ أكثر رعباً من الموت، ومن بين الألم، الشك، والذنب، فأكثر ما لا أتحمله هو الذنب. ولأنني خنت ذاتي، فأنا أحتقرُ نفسي، ومهما جنيتِ وحققتِ من مكاسبَ في هذه الحياة، فسيتبعكِ هذا الاحتقارُ إلى نهاية حياتكِ. أعرفُ حقَّ المعرفة أنَّ ثمة سعادة وحيدة في الدنيا، هي السعادةُ النابعةُ عن راحة الضمير، عن أن تكوني شخصاً طيباً.

ثم إنْ كان المرء مبدعاً، لا بُدَّ أن يُعاقب، لأنه يتجاوزَ شرَّ الواقع ويَمنحُ ذلك الإيمانَ، إلى العالم، ويُخبرَ الآخرين أن تلك السعادةَ موجودةٌ فقط عند ذاك الشاطئ الذي تحدثتِ عنه، شاطئُ الخلاص، الذي تلمع أرضه بإشراقة، أما هنا فليس ثمة سعادة، لا في المتاجر، ولا السيارات الملونة، ولا منصات العرض الشامخة التابعة للجيش حيث وقف هناك وأدَّى حركةً بسيطة، ومُنِح قيمة، وعُوقِب بسبب ذلك.

لا أدري ما ينبغي عليَّ فعله، لكني أعلم أنه يجب أن أفعلَ شيئاً، هل ستمدين يدَكِ لي وأبوابُ العالم كلها تُغلَقُ أمامي؟

لا أخافُ العالم، أخافكِ أنتِ، بصيرتي وسيطرتي على نفسي عديمتا الجدوى. لقد كان من الصعبِ إيذاء أخيل بطل الميثولوجيا الإغريقية، لأنَّ أمه عند ولادته غمرته من كعبِ قدمِه في ماءِ النهر، فلم يصبح من الهالكين، لكن كعبه كان نقطةَ ضعفه والسبيلَ الوحيدَ إلى تدميره.

قو تشنغ ـ رسالة بدون تاريخ

 


 

الرسالة الثامنة: من قو تشنغ إلى شِيَا يي

شِيَا يي

شاهدتُ فيلماً منذ قليل، وفكرتُ بكِ، كلَّما أرى شيئاً أفكِّرُ بكِ، ثم ما عُدتُ أتحمل، فخرجت واطئاً درجاتِ السلَّم الواسعة إلى أن وصلت الجسر، وهتفتُ باسمك، حيث كانت مياه النهر تتدفقُ في العتمةِ الهائلة. وثمة لحظةٌ، لحظةٌ واحدةٌ فقط أحسست نفسي مُثقلاً بالهم، إلَّا أن تلك اللحظة رافقتني، وصار صوتُ النهر من بعيد رقيقاً، وأنا أحيا داخل دَفقِه، وأرى يدي تتحركان في العتمةِ وتحجبُ نجوماً، ومصابيحَ، وأناشيدَ حشرات الليل.

أشعرُ بخيبةِ أملٍ شديدة لأني لم أتلقَ خطابكَ اليوم!

قو تشنغ ـ 29 أغسطس 1979


 

الرسالة التاسعة: من شِيا يي إلى قو تشنغ

قو تشنغ

الخطابُ في الطريق. إن رسائلنا كمثل قطارين، قطار يمضي إلى الشمال، والآخر إلى الجنوب، يقتربان من بعضهما ويزمجران ثم يتجاوز قطارٌ الآخر.

لِمَ تغمر يدَكَ في ماء الليل؟ سيصيبك الإنهاك هكذا، وستتعذب إذا غمرتها أكثر، ثم إن لديكَ الكثيرَ من الأشياء التي تريد فعلها، لقد جئنا إلى هذا العالم، ولم يدم إلَّا أكثر من شهرين على تعارفنا، ولا زلت لا تعرفني، ولا تفهم نفسك، كما أنَّكَ شخصٌ عصيٌّ على الفهم.

كنت أحب شعري الطويلَ في صغري، وأجدله ضفيرةً على الدوام، ولم أكن أود قصَّه مجدداً، إلا أنني لم أكن قادرةً على تمشيطِه، وإذ كان على أمي أن تذهبَ إلى عملها يومياً، فلم يكن لديها الوقت الكافي لتضفير شعري الطويلِ بخصلاتِه الناعمة، وصار الأمرُ عبئاً يَثقلُ عليها، إلى أن جاء يومٌ وتجاهلت رفضي، وقصت شعري بكل بساطة. كنت أشبه الصبيان، واقفة هناك في باحة المنزل بنفسٍ مغتمَّة، وقلبي مفعمٌ بكراهيةٍ مطلقة للمقص، وكراهيةٍ مطلقةٍ لأمي، ونويت ألَّا أتحدث معها.

أمي جنديةٌ تعمل في مستشفى عسكري، وحينها لم أكن أظن أنَّ الجنودَ جميعاً قساةٌ مثلها، لأنَّ والدة يارو “صديقتي في المدرسة الابتدائية” جعلتها تُبقي على ضفيرتِها، ووالدة ليانغ جوان كانت تضحك على الدوام، حتى أنَّه يمكنك سماع ضحكاتها من بعيد، كما أنها أعدَّت لي أطباق المخلل وجذور نبات الأرز البري من قبل، كنتُ حمقاءَ إلى حد أنني بدأتُ التفكيرَ في تغييرِ أمي، واختيارِ أمٍّ من أفضلِ الأمهات، ومضيت أنتقي من أمهات أصدقائي، إلَّا أنني لم أحس بالرضا، وكنت قد نسيتُ أمرَ شعَري، إلَّا أنَّ كرهاً غامضاً كان قائماً لأمي، ولا بد أن أقر أنني لم أجد أماً تحلُّ مكانها، لا يمكن لأخرى أن تكون أمي، لأنني ابنتها، هكذا كان، منطقاً في غاية البساطة وبلا أسباب أدركته فيما بعد. ورغم أنني حينذاك فكرتُ في الكثير من الأسباب المضحكة للأمر، إلَّا أنَّ ذلك لم يكن الجانبَ الوحيدَ في تفكيري، فقد اكتشفت بفضلها شيئاً عن نفسي، أمراً كان مقدراً قبلاً، أدركتُ أن جُلَّ ما أريده مطبوعٌ في قلبي، وأنَّ كلَّ معاناة، ورغبات ومطالب مجردةٍ من ذاتِها هي مساعٍ بلا طائل.

وربما تلك الأنهار والنجوم التي نحسها هي الخطوات التي تأخذنا صوب أنفسنا، فحين تكونُ ذاتَك، ستفهم نفسك، وتفهمني، وتُكملني، وسأكون حينها أنتَ، وسننسى الظلام، ونصعد درجات السلَّم، ونقترب من موعدِ لقائنا.

شِيَا يي ـ 2 سبتمبر 1979

 


 

الرسالة العاشرة: من قو تشنغ إلى شِيَا يي

شِيَا يي

أستيقظ مع بزوغ الفجر، وحالما أستيقظ أفكِّرُ بك، لقد اعتدتُ الأمر. وكنتُ أتحدثُ بصوتٍ خفيضٍ بينما أتخيلُ إجاباتك، لقد كنتِ تجيبينني بالفعل. هل سيصلني خطابُك اليوم؟

أحسُّ بالغرابةِ الشديدةِ دائماً حين أكتبُ لكِ. ستراكِ تلك الكلماتُ بعد عدة أيام، ويا لها من كلماتٍ سعيدة، سأكونُ راضياً كلَّ الرضا إذا تحولتُ إلى كلمةٍ، حتى لو تحولتُ إلى كلمةٍ مكتوبةٍ على نحو خاطئ.

أريدُ أن أفعلَ شيئاً، أريدُ أن أراكِ، ولن يمنعني المرضُ أو السجنُ أو الموت، أريدُ أن أدفعَ البشرَ بهدوءٍ وأراكِ. إنَّ ذاتي الحقيقةَ تُسَرِّحُ شَعرَها الآن.

على وشك أن تدق الساعة الثالثة، على وشك أن يصل خطابُك، يراودني إحساسٌ أنه سيصلني خطابٌ منكِ اليوم، سأعرفُ بعد قليل.

إنني أحمقُ للغاية، وليس بمقدوري السيطرة على مشاعري، وأعلم أنني أسيرُ في دربٍ عتيق، لماذا لا أسيرُ في دربٍ آخر غيره؟ دربٌ يتداخلُ ويختفي دائماً.

حاولتُ أن أتخيلكِ في الحقيقة، وأعود إلى الأوقاتِ القصيرةِ التي قضيناها معاً في القطارِ والميدان، كانت أوقاتاً مبهجةً حقاً! أتخيلكِ، ما أن لمحتني، أضاءت حياتي، غدت هادئةً وعظيمة، حين تخيلتكِ تنظرين إليَّ بعينيكِ اللتين بلونِ الكهرمان، فاتني الباص، فاتتني عدةُ باصات.

وإذ أسيرُ في هذا الدربِ العتيق، فلدي أمنية، أتمنى أن يمرَّ الوقت، يمضي بسرعة، يمضي بسرعة إلى أن يمَّحي، لكني خائف، فلم أفعل شيئاً يُذكر حتى الآن، فلم أرتدِ إلَّا هذه الثيابَ وذهبت بعينين خاويتين لمقابلتِك. إنَّ هاتين العينين عاجزتان عن الرؤية، لا تريا إلَّا لوحةً مرسومة.

قو تشنغ ـ 5 سبتمبر 1979


 

الرسالة الحادية عشرة: من شِيا يي إلى قو تشنغ

قو تشنغ

لَكَم أُحبُّ خطاباتك وهيئتك وأنتَ تتحدث، إلَّا أنني من فرط ما قرأتُها، أحسست فجأةً أننا لا بد أن نكسر الروتين، لِمَ لا نأخذ استراحة ونفعل شيئاً مختلفاً؟ أفكر متى سأذهب إلى بكين، فإذا ذهبت في الشتاء لا بد أن أتعلم التزلج على الجليد، وأطلب من أختكَ الكبيرة أن تعلمني، هكذا فكرت.

كنت أعيش في تشنغدي في صغري، وهي مدينة لا تبعد كثيراً عن بكين وشتاؤها باردٌ مثلها. كنت أستيقظُ في الصباح الباكر وأغسلُ أسناني خارجاً، وحين عدتُ في إحدى المرات وأمسكتُ بمقبض الباب التصقت يدي بالمقبض، وتملكني ذعرٌ شديد. للأسف لم أكن أجيد التزلج على الجليد آنذاك، ربما لأنني كنتُ لا أزال صغيرة. كان ثمة أرض خالية أمام المنزل تتسع مساحتُها لمائدةٍ وعدة كراسي، فأحطناها بسياجٍ خشبي فصارت كفناءٍ صغير، ثم حددنا الأرضَ لنزرعها، وإذ لم يكن ثمة ما يُزرع في الشتاء، فقد أصبح هذا المكان حلبةَ التزلج الخاصة بي في الهواء الطلق، حيث كنت أحمل عصا السقَّا بدلوين وقت المغيب وأصبُّ الماءَ فيتجمَّد في لحظات، ثم يتجمَّد تماماً طيلةَ الليل وتصبح الأرض مسطحةً تلمع بضياء، وكيفما وطأتها خلال النهار وخلفت آثاراً، يكفي أن تصب الماء ليلاً لتصير مسطحةً ملساءَ من جديد.

لا أجيد التزلج على الجليد رغم أنني أملك زلاجة صغيرة صنعها لي أبي، كنتُ أجلسُ أعلاها وأتزلج في حلبة التزلج الصغيرة. هل رأيتَ حلبةَ تزلجٍ صغيرةٍ كهذه من قبل؟ كان ثمة حلبة صغيرة لكل منزل حيث كنت أسكن. هذا شتائي فيما مضى، أما فيما بعد سأتعلم التزلج على الجليد، وأرتدي حذاء التزلج ذا سكين التزلج الحادة، فلا أحب التزلج بالعجلات.

أود أن أذهب إلى بكين في الشتاء.

ربما بإمكاننا أن نذهب إلى مكانٍ آخر، فإن كانت تلك الحلبة الصغيرة لا تزال موجودة يمكننا أن نذهب، ربما ستجد شياو يي أخرى لم ترها من قبل.

شَيَا يي ـ 8 سبتمبر 1979

[1] توضع قبل الاسم كصيغة للتحبب بمعنى “الصغيرة، الصغير”

[2]  المعبد الذي تمارس فيه الطقوس البوذية

 

نشرت النصوص في ملحق الاتحاد الثقافي ومجلة رمان الثقافية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.