هؤلاء الذين يحلمون بالشِّعر
قصائد للشاعر الصيني: غي ماي
التقديم والترجمة عن الصينية: يارا المصري
حَسَنٌ، الآن أتقبلُ فشلي التام
وزجاجات النبيذ الفارغة والبيضات ذات الثقوب الصغيرة
حَسَنٌ، بإمكاني الآن أن أنجزَ انهياراً آخر مهماً
فلأنجزه، هذه المرَّة، إنجازاً مثالياً
أمَّا عن خمرنا والمسودات الجافة
والحب، التصرفات، البصاق، والطموحات العالية
بإمكاني أن أغليهم في قِدر
وأقدمه لك، يا مَن تتوق إلى انهياري التام.
غي ماي ـ من قصيدة “العهد”
وُلِد الشاعر غي مان عام 1967 في مقاطعة هيلونغ جيانغ، والتحق بقسم اللغة الصينية ـ جامعة بكين عام 1985، ووزع عام 1989 للعمل في مجلة “أدب الصين” التي كانت تصدر آنذاك، وبدأ محاولات كتابة الشعر حين التحق بالجامعة. ورغم أن تجربته الشعرية لم تدم إلَّا ست سنوات، إلَّا أنه ترك إنتاجاً شعرياً وضعه بين شعراءِ جيله المميزين، وفي مكانةٍ بارزةٍ في الشعر الصيني المعاصر.
وفي الرابع من سبتمبر عام 1991 انتحر غرقاً في نهر وان تشوان في ضواحي بكين الغربية، وكان عمره 24 عاماً، لينضم كذلك إلى الشعراء المنتحرين من جيله كالشاعر الصيني خاي زي.
كتب الشاعر شي تشوان عن رحيل أصدقائه بما فيهم خاي زي ولُوه يي خي وغي ماي قائلاً:
“كيف بإمكاننا التخلص من أثقال الروح؟ ورغم أننا لا نستطيع التحرر منها كلياً، كيف يمكننا أن ننعم بشيء من الطمأنينة ونحن نسير في دربنا، بدون أن نلتفت بين حين وآخر، متأملين بقلق، تلك الأرواح التي تتبعنا؟ ورغم أنني كتبتُ عن الراحلين الكثير من القصائد والمقالات لتخليد ذكراهم، لكنني لم أتمكن من محو ما تركوا في من كآبةٍ وحزنٍ بالكلمات.
إنَّ حفظ ذكرى ما أمرٌ أخلاقيٌّ ونابع من الضمير، لكن ليس بإمكاني إنكار أن الموت يخترقُ رأسي، ويخترقُ ظهري كقشعريرة باردة، يأتي في حلمي كتجلي الرعب. لقد حلمتُ من قبل أنني أسير في درب ضيق في وادي جبل تتناثر فيه أوراق شجر متساقطة، يفضى إلى منزل مهجور خالٍ من البشر، وكل شيء داخله أزرق اللون؛ جدران زُرق، أرضية زرقاء، كراسي وطاولة زرقاء، أكواب شاي زُرق، تبعث فيك إحساساً ما بالبرودة، ثم رُفِعت الستائر الزُرق فجأة! لم يكن ذلك شغبَ عفاريت، بل كان الصمت، الخواء، وجهَ الموت الحقيقي.”
الذين لا يرون ضوءَ الشمسِ بعد موتِهم
الَّذين لا يرون ضوءَ الشمسِ بعد موتِهم… أناسٌ غيرُ محظوظين
هم ملائكةٌ بأرديةٍ بيْض مقطوعةٌ رؤوسُها
تسيرُ بكآبةٍ رائحةً غاديةً في الدربِ الضيِّقِ الذي يُفضي إلى الدير
تُغنِّي بصوتٍ خفيضٍ… صوتٍ يصلُ إلى آذانِ الغربانِ الصغيرة
الساكنةِ أسفلِ إفريزِ الباغودا
والماعزُ الأسودُ الحالمُ بالروثِ في طريقِه
يمكنه أن يلمحَ أشجارِ الحورِ الكثيفة. أمَّا أنا
فأكون سوطاً شرساً
يجلدُ تلك التخيلاتِ الملعونةَ بالموت
هذا عَلَم… عتمةٌ تخفق
بعد الموت، من بإمكانه أن يرى الشمسَ مجدداً؟ والحياة
بديلٌ مهيب… انْتَظَرَ طويلاً
عيناه معبأتان بصوفٍ بُنِّي
باستطاعتِه أن يصيرَ نجوماً في سماءٍ ليلة
بعد موتِنا لن نستطيع رؤيةَ الشراراتِ المنبعثةِ من حِمم اللافا
بعد موتِنا لن يمكننا أن نحلمَ بهؤلاءِ الذين يحلمون بالشعر
وكأنَّ الأمرَ أشبه بزجاجةٍ سحريةٍ ذاتِ مدخلٍ مُحبَّبٍ إلى النفس
تدفعنا الهوامُ والبذورُ نصفَ المشقوقة
إلى الحُلمِ بالشِّعر… أمَّا في كلماتٍ القصائدِ الكئيبة
ثمةَ هناك الذين لا يرون ضوءَ الشمسِ بعدَ موتهم.
شخص
شخصٌ يحيا في لغتِه
شخصٌ يحيا في مياهِه
شخصٌ يحيا في ضوءِ النجومِ الساطع
شخصٌ يحيا في قلوبٍ طيبةٍ لأشخاصٍ آخرين
بَسَطتُ شباكَ الحكمةِ في الطريقِ لأحبائي
وبالطبع يمكنني الحصولَ على طعامٍ رخيص
لكن إذ أسكبُ اليودَ الحلوَ على كُمِّي
يتهادى من بعيدٍ بحرُ دموع.
إذ أُرافقُ صديقاً إلى الكنيسة
ثمةَ ثلاثُ حيواتٍ لم تختبرها بعد
ثمةَ ثلاثةُ طيورِ سنونو أمسكتُ بها في حجرتِك
ثمةَ ثلاثةُ معتقداتٍ حفرتُها في الشجرة
ثمةَ ثلاثةُ أنهارٍ لم يطأها إلَّا طرفُ قدمِك
ثمةَ ثلاثةُ مراسمَ تُعقَد قربك
ثمةَ ثلاثةُ أزمنةٍ تعبرها في حُلمِك
ثمةَ ثلاثةُ قناديلَ أخمدتها الريحُ في حُجرتِك
ثمةَ ثلاثُ نوافذَ تُفتَحُ وتُغلقُ في حياتِك
ثمةَ ثلاثُمائةِ خيطِ ضوءٍ، تُفضي إلى دربِ الرب
ثمةَ ثلاثةُ آلافِ حجرٍ، هي زهورٌ خفيةٌ عن أعين الناس
ثمةَ ثلاثونَ ألفَ سهمٍ، تشيرُ إلى وجهةِ الموت
ثمةَ ثلاثُمائةِ مليونَ سفينةٍ، غرقت واحدةٌ تلو الأخرى يومَ ولادتِك
ما يُسَمُّونَه الحبَّ ما هو إلَّا سعادة
وما يُسَمُّونَه الألمَ ما هو إلَّا خطأ
الحَدّ
أن أرى نفسي كتاباً، أمرٌ مستحيل
والتحليقُ مستحيل.
وأن أعيشَ داخلَ ثمرةِ جوزٍ، أمرٌ مستحيل.
وجيتارٌ ذو ثلاثةِ أوتارٍ، يُمَنِّي بسعادةٍ ناقصةٍ، أمرٌ مستحيل.
وأمرٌ مستحيلٌ أن أملأ الحقولَ بالألم.
وأن أملكَ شغفاً، أمرٌ مستحيل.
وأن أنسى الكلمات، أمرٌ مستحيل.
وأن أبقى أمرٌ مستحيل.
وأن أقضي الليلَ مع الرب، أمرٌ مستحيل.
والموتُ مستحيل.
في يومٍ ما
في يومٍ ما، سأربح العالم
في يومٍ ما، سأسترجعُ خسائري.
في يومٍ ما، لن أتوقف عن قهرِ ماضيي.
وأنتَ يا من احترمتني، لم تكن زائفاً
لذا سأجعلُ من لحمي ودمي ذهباً، وطعاماً
وأهديه إلى وقاركَ واتساعِ أفقِك
ويا من أحببتموني، إنِّي لم أخذلكم
رغم أن انتظاركَم، كان كئيباً وحائراً
فإنَّ الحقيقة ستنجلي في يومٍ ما
وسيُعَوَّضُ عن كلِّ قطرةِ عرقٍ
مُرَّة.
إلى نجمةِ الغسق
ارتفعت نجمةُ الغسقِ من الأرضِ والبحر
حيث كنتُ أقفُ أنا في نهايةِ العتمة
وأرى الغسقَ يشبه تمثالاً أبيضَ عارياً
أنا نجمةُ السماءِ الوحيدةِ اللامعة
وفي تلك اللحظةِ الحرجة
بدا وكأنَّني رأيتُ أمساً آخرَ للبشرية
حين كان ثمةَ ثلاثةُ أشياءٍ تتقاتلُ فيما بينها:
الغسقُ، الشيءُ الوحيدُ الذي يلمعُ في السماء
النجومُ، فراشُ ابنةِ الليلِ الكئيب
أنا، أنا الظلامُ الكامنُ في حياتي
وفي تلك اللحظةِ الأخيرةِ، كان باستطاعتي أن احلم
بهذه الأرضِ القاحلة، وآخرِ بذرة
بهذا الزمنِ المُعلَّق، وآخرِ صوت
وهذا العالمِ، وآخرِ ما فيه، نجمة الغسق.
نشرت في موقع جدلية يناير – 2018