كلُّ انفجار لا يتضمنُ لحظةَ صمتٍ …وكلُّ موتٍ يحمل صدىً طويلاً – قصائد للشاعر الصيني بي داو

قصائد للشاعر الصيني (بي داو)

ترجمتها عن الصينية وقدَّمت لها: يارا المصري
“في شتاء عام 1978، غطِّى بكين ثلجٌ كثيف، وكانت الضاحية الجنوبية قريةً قليلةَ السكان، تبعد عن النهر وأرض السفارات بمسافةٍ كبيرة، وكانت تقع على الحدود بين المدينة والريف، ولهذا كانت تعتبر منطقة مهجورة تحت ظروف السلطة الديكتاتورية. وكان من بين البيوت الصغيرة في تلك الضاحية، بيتٌ مغطَّاةٌ نوافذه بخرقٍ بالية. وتحت الضوء الخافت، كان هناك سبعة شباب يتحلقون حول آلة للنسخ منهمكين في العمل، كنت أنا واحداً منهم. ومضينا نعمل لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال……وفي اليوم الثالث والعشرين من شهر ديسمبر عام 1978، صدرت مجلة (اليوم) في الدوائر الحكومية، ودور النشر والمكتبات، وأماكن بيع الكتب في الجامعات.”
كانت هذه مقدمة الشاعر الصيني بي داو لمقال كتبه عن مجلة (اليوم)، والذي كان واحداً من أهم مؤسسيها. ومنذ عام 1978 إلى عام 1989، ظهر جيل من الشعراء من بينهم بي داو الذين تأثروا بالشعراء الغربيين المعاصرين وأساليبهم الشعرية. وكانت مجلة (اليوم) رغم أن نشرها لم يستمر لفترة طويلة، من أهم المجلات الأدبية المؤثرة في ذلك الوقت، لنشرها نصوصاً كانت محاولة للتحرر وتحدي الأيدولوجية الفكرية الماوية عن الواقعية الاشتراكية. وفي عام 1989 اندلعت مظاهرات الطلبة الحاشدة في ميدان تيان آن مين، وكان الشاعر بي داو أحد المشاركين فيها، ليُنفى بعدها إلى الخارج، متنقلاً بين أوروبا والولايات المتحدة، حتى سمحت له الصين بالعودة إلى أرض الوطن عام 2006. ولد بي داو في بكين في الثاني من فبراير عام 1949، ويعمل محاضراً في جامعة هونغ كونج للغة الصينية، وقد رُشِّح اسمه مراتٍ عديدة لجائزة نوبل للآداب. كما أنه عمل محاضِراً في جامعة ستانفورد، ودرّس في جامعة كاليفورنيا وجامعة ألاباما. له العديد من الدواوين الشعرية والنصوص النثرية والقصص القصيرة منها: (وردة الوقت) شعر، (مغني منتصف الليل) شعر، (الغريب الذي عاد) مجموعة قصصية، (البيت الأزرق) نصوص نثرية. وقد تُرجمت أعماله إلى الكثير من اللغات، ويعتبر من أهم الشعراء داخل الصين وخارجها. وهنا أضع بين أيديكم ثمانية نصوص متنوعة كتبها الشاعر في فترات مختلفة من حياته.
الابتسامة. الثلج. النجوم
كل شيء يدور بسرعةٍ بالغة،
ولا يوجد سواكِ يبتسمُ في هدوء.
من تلك الوردة الحمراء الباسمة
قطفتُ أغاني الشتاء.
ندفُ الثلج الزرقاء الباهتة
بمَ تتهامس يا تُرى؟
أجيبوني،
هل ستظل النجوم نجوماً إلى الأبد؟
كل شيء
كلُّ شيءٍ هو القدر
كلُّ شيءٍ هو الضبابُ والغيوم
كلُّ شيءٍ هو بدايةٌ بلا نهاية
كلُّ شيءٍ هو مطاردة خاطفة
كلُّ فرحٍ لا يتضمن ابتسامة  
كلُّ حزن لا يتضمن دموعاً  
كلُّ اللغاتِ تكرار
كلُّ علاقةٍ هي علاقةٌ تحدث لأول مرة
كلُّ الحب في القلب
كلُّ الماضي يأتي في الحلم
كلُّ أملٍ يحمل تفسيراً
كلُّ عقيدةٍ تحمل أنيناً
كلُّ انفجار لا يتضمنُ لحظةَ صمتٍ
وكلُّ موتٍ يحمل صدىً طويلاً.
مفترق طرق
سَكَنتْ الرياح
وتوقفت بهدوء عند مفترق الطرق.
والسياج الغارق في الضباب،
فتح بابَ الليل الصغير:
وكانت العتمة تقترح نخباً حاملةً القنديل.
زخارفُ الشُبَّاك أعلى العين
تغربلُ النهارَ الضبابي.
تَعَلَّم الوداع،
كما تعلَّمتُ كلَّ ما حدث في الماضي،
كما تعلَّمتُ السعادةَ والحزن.
التَفِتْ،
ودع الضوءَ الخافتَ يقع على كتفك
لعلك تود الابتسام في استرخاء
أما بلورات الصقيع المجدولة العالقة في الشِباك
فتنسابُ على مهلٍ مع الندى الليلي.
في كآبتي الشفيفة
في كآبتي الشفيفة
أغمُرُكِ، كأنني ضبابٌ ليليٌّ أخضر
يلتف حول شجرة صغيرة وحيدة
أما أنتِ فتمزقين الضبابَ، قطعةً قطعة
وترتشفينه عبر أصابع يدكِ الباردة
كأنكِ ترتشفين طبقةً رقيقةً من اللبن
لذا تنفخين قمراً ذهبياَ
يرتفعُ عالياً، ينيرُ الطريق.
نعم، بالأمس
بذراعكِ حجبتِ نصفَ وجهكِ،
وحجبتِ اضطرابَ الغابةِ كذلك
ثم أغمضتِ عينيكِ ببطء:
نعم، بالأمس……
بالتوت، لوّنتِ سحبَ الشفق،
ولوّنتِ خجلك كذلك.
ثم أومأتِ برأسك، وابتسمتِ ابتسامةً حلوة:
نعم، بالأمس……
أشعلتِ عودَ كبريتٍ في الظلام،
ورفعتِه بين قلبينا.
ثم عضضتِ على شفتيك الشاحبتين:
نعم، بالأمس……
أطلقتِ القاربَ الورقي في الجدول،
ووضعتِ فيه وعودنا الأولى.
ثم التفتِ في حزم:
نعم، بالأمس……
خط فاصل
أريد أن أذهب إلى الضفةِ المقابلة
غيَّرت مياهُ النهر لونَ السماء
وغيَّرتني
كنتُ أنسابُ مع التيار
يقف ظلي على ضفةِ النهر
كشجرةٍ فَحَّمَهَا البرق  
أريد أن أذهبَ إلى الضفةِ المقابلة
أحراجُ الضفةِ المقابلة
تداعبُ حمامةً بريةً وحيدة
تطيرُ نحوي.
غداً، لا
هذا ليس وداعاً
لأننا لم نلتقِ
على الرغم من أن الظلَّ والظلَّ
قد اصطفا في الطريق بجانب بعضهما البعض
كمجرمٍ هاربٍ وحيد
غداً، لا
الغد ليس في جانب الليل ذاك
ومَن يترقب، هو المذنب
أمَّا ما وقع خلال الليل من حكايات
فلتتركها تنتهي في الليل.
الكابوس
أعلى الرياح المتقلبة
رسمتُ عيناً
ولهذا مرت اللحظةُ البطيئة
ولكن لم يستيقظ أحد
كالعادة فاض الكابوس تحت ضوء الشمس
وغطَّى قاع النهر، وتسلقَ الحصى
مُحدثاً احتكاكاتٍ واضطراباتٍ جديدة
أعلى الأغصان، وأعلى سطوح المنازل
تحولت نظرات الطيور المرتعدة إلى جليد 
وهَوَت إلى الأرض
وآثارُ عجلاتِ السياراتِ على الطريق
تحوَّلت أيضاً إلى طبقةٍ هشةٍ من الصقيع
ولم يستيقظ أحد.

نشرت في مجلة شئون أدبية – عدد 70

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.