مويان: عندما كان الأطفال في المدرسة يتعلمون، كنت أرافق الغنم والبقر وأتحدث معها

عندما كان الأطفال في المدرسة يتعلمون
كنت أرافق الغنم والبقر وأتحدث معها
الكاتب الصيني (مويان) الفائز بجائزة نوبل للآداب 2012
الكاهن الشاب: أيها المعلم، لماذا حملت الفتاة وساعدتها على عبور النهر؟
الكاهن العجوز: لقد أنزلتها ونسيت الأمر، لِمَ لا تنسى أنت أيضاً الموضوع.
يقول “مويان” للصحافي الذي يحاوره، داعياً إيَّاه إلى نسيان أمر جائزة نوبل، والعودة إلى “الحياة”.. فلا شيء تغير من وجهة نظره بعد حصوله على الجائزة، سوى أنه استقبل العديد من الصحافيين، وبعد المقابلات الصحافية.. يقول “مويان” سيعود كل شيء إلى “وضعه الطبيعي” أنتم تعودون إلى أماكن عملكم وتقومون بأشغالكم، وأنا أبقى في المنزل، آكلُ وأقرأ وأكتب.
هذا الكاتب الذي يتعامل بتواضع، مع جائزة هي الأشهر والأكبر عالمياً، كان قد قرأ وهو في العاشرة من عمره “قاموس لغته الصينية” وصحح أخطاءً فيه.. لم يكن ثمة كتب كثيرة في قريته وفي القرى التي حولها.. يقول “مويان”.. فقرأت القاموس، أمَّا عن كوني حفظته، كما تقولون، فهذا أمر مبالغٌ فيه يرد بتواضع أيضاً.
كانت ثمة مقابلات صحافية قد جرت مع “مويان” قبل وبعد فوزه بجائزة نوبل، ومن بين هذه المقابلات اخترت أن أترجم مقابلتين “قبل وبعد الجائزة”.. لعلَّ ذلك يُعطي إطاراً مرجعياً لأفكار “مويان” الذي كان يأكل حينما جاءه نبأ الفوز بجائزة نوبل للآداب.
(حينما أكتب أشعر كأنني إمبراطور).. يقول مويان، وتصبح العبارة مانشيت لحوار أجراه الناقد والشاعر والصحافي (شي يي لونغ) الذي يعمل في (CCTV ـ التلفزيون المركزي الصيني) يوم 28 سبتمبر عام 2007. والذي طرح على مويان أكثر من خمسين سؤالاً، اخترت منها ما يكفي لبيان كيف كان يفكر مويان قبل جائزة نوبل، ووجهة نظره في الكتابة والإبداع والرواية،
ولد مويان في قرية (غاومي) في مقاطعة شاندونغ، عام 1955 واسمه الحقيقي (غوان موييه) أمَّا (مويان) فهو لفظ يعني (لا تتحدث) وقد أطلقه الكاتب على نفسه كاسم أدبي، وحينما أنهى دراسته الابتدائية كانت الثورة الثقافية قد بدأت في الصين، فتوقف عن الدراسة، واتجه إلى العمل في الزراعة، ثم استكمل دراسته الثانوية بالتزامن مع عمله، ثم التحق بجيش التحرير الشعبي (الجيش الصيني) عام 1976، وخلال خدمته العسكرية بدأ الكتابة، ثم التحق كطالب بالأكاديمية الثقافية لجيش التحرير الشعبي عام 1984، وبعد تخرجه عام 1986 عمل في الدائرة السياسية العامة في الجيش، وفي عام 1991 حصل على درجة الماجستير من جامعة بكين للمعلمين.
يكتب مويان الرواية والقصة القصيرة، ومن أعماله (الذرة الرفيعة الحمراء) وهي الرواية الفائزة بجائزة نوبل، والحلم والأوباش، والضفدع، وأثداء كبيرة وأوراك عريضة، ومطر هاطل في ليلة ربيعية، وقد ترجم الدكتور حسانين فهمي حسنين إلى اللغة العربية (الذرة الرفيعة الحمراء) وترجم الدكتور محسن فرجاني (الحلم والأوباش) وتعمل مترجمة هذا الحوار حالياً على ترجمة قَصص لمويان من بينها (عدو الابن)
مويان الذي كان يعاني في طفولته من منع الكبار له عن الكلام (مويان ـ لا تتحدث ـ اسكت) أصبح من كبار الحكَّائين والمتكلمين في الصين وفي العالم.
شي يي لونغ:
كلُّ كاتب لديه نوع من التجربة أو المعاناة، هل يمكن أن تروي لنا تجربتك وكيف أثرت فيك؟
مويان:
في الحقيقة، تجربتي بسيطة للغاية. عندما كنت في الأكاديمية الثقافية لجيش التحرير الشعبي، قسَّمنا السيد (تشو شيانغ تشان) نحن الكُتَّاب من العساكر إلى فريقين. الفريق الأول كان يمثله (تشو سو جين)، (تشو تاو)، و(تشياو ليانغ)، وجميعهم ينحدرون من أسر عسكرية أرستقراطية، فهم منذ صغرهم يعيشون في منازل كبيرة، وآباؤهم وأجدادهم كانوا في جيش التحرير، لذلك فهم على دراية بالأصول العسكرية، يعرفونها من جذورها، وبعدما كبروا انضموا إلى الجيش، وعلاقتهم بالجيش، والمعسكرات، والبزات العسكرية، كعلاقتي بالأرض، والبقر والأغنام والمحاصيل. أما الفريق الثاني، فكان أنا، و(لي تسون باو)، وكنا نمثل فئة الفلاحين الذين ولدوا وكبروا في الريف، ثم انضموا إلى الجيش. لقد مررت بتجارب النضال والكفاح، وتجربة الانضمام إلى الحزب، والدراسة، ودخلت منها خطوة خطوة إلى العمل الإبداعي. وأنا أعتقد، أن تجربة هذين الفريقين ككُتَّاب مختلفة اختلافاً كبيراً، إلا أنه في فريقي كانت ثمة سمات كثيرة مشتركة تربطنا. (تشو سو جين)، و(تشو تاو) كبرا في المعسكرات، الفرق بينهما، أن أحدهما كان في معكسر في مدينة بكين، والآخر في معكسر نان جينغ، وبينهما بالطبع العديد من الأمور المشتركة. وكانت لدي أنا و(لي تسون باو)، (يان ليان كي)، (تشو دا شين) الكثير من الأمور المشتركة أيضاً. فكلنا ترعرعنا في القرى التي تعاني من الفقر الشديد، الفرق الوحيد فقط هو أماكن القرى، شاندونغ أو هينان، فنحن نفهم بعضنا البعض بحكم البيئة المشتركة التي قدمنا منها، وتجربتي في معناها ورحلتها تحكي تجربتهم أيضاً، وهذا ما حدد اتجاه عملنا الإبداعي. ولكن لماذا هناك  الكثير من الأماكن في أعمالي الإبداعية تختلف عن باقي زملائي؟، لأنه فيما عدا السمات المشتركة التي تجمعنا، فإن هناك شيئاً استثنائياً في تجربة كلٍّ منا الشخصية يختلف عن الآخرين. التشابه هو أننا ريفيون، والاختلاف بين الفلاحين الفقراء والفلاحين الأجراء، وبين مُلاك الأراضي والفلاحين الأغنياء هو اختلاف كلي. عائلتي هي عائلة فلاحين فوق المتوسط، والعيش بين عائلة فلاحين أغنياء وعائلة فقيرة في ظل الانتماء الطبقي للعديد من السنوات، يولد شعوراً غريباً كمَنْ يمشي على قشر من الجليد. العالم تغير الآن، ولكن هذه الأشياء تبقى في العظام. ولذلك فإن تجربة حياتي يربطها الكثير من القواسم المشتركة بين الكُتَّاب الآخرين، وأيضاً بها اختلافات.
بعد تحرير الصين، كانت الصراعات الطبقية، والصراعات السياسية هي أهم عنصر في المجتمع، ولم يكن المال بالنسبة إلى الصينيين قبل ثمانينات القرن العشرين ذا جدوى كبيرة في موضوع مثل الزواج. في ذلك الحين، عندما تريد فتاة من عائلة فقيرة قادمة من الريف أن تتزوج، فلن تقبل بك، إذا كنت شاباً وسيماً من عائلة فلاح غني، وتعيش حياة ميسورة، وتمتلك بيتاً جيداً، ولكن انتماؤك الطبقي متواضع. والعكس، إذا كنت شاباً فقيراً، ولست وسيماً، وحالتك المادية ليست ميسورة، وكان بيتكم متداعياً، رثَّاً، ولكن انتماؤك الطبقي جيد، فيمكن أن تعثر على زوجة جيدة. هذا الأمر يبدو الآن شيئاً غير معقول، ولكنه كان طبيعياً في ذلك الوقت.
في هذه البيئة المجتمعية، أعتقد أن أكبر مشكلة كانت هي مشكلة الانتماء الطبقي، التي كانت تسبب ضغطاً كبيراً يقف حائلاً بين الناس وبين بعضهم البعض. وبسبب هذه الفجوة، أثَّر هذا على كل ما تعلمناه من عائلتنا، يجب عليك أن تكون محترماً وصادقاً، وألا تنسى حمل ذيلك بين أسنانك، ويجب أن تحتفظ أمام الناس بمظهر المتواضع المهذب، الحقير الوضيع، وحاول قدر المستطاع ألا تتحدث، وإذا أجبرك أحد على الكلام، فلا تتحدث بكلام يغيظ مَنْ أمامك، وإذا حدث أمامك موقف غير عادل، لا تكن أول المُتدخلين، هذه النصائح كانت تحمي حياتك، كانت هذه التعليمات التي يتلقاها الأطفال في عائلات الفلاحين. وكان من الطبيعي أن أكون تحت ضغط هائل بسبب هذه البيئة وتعاليم الأسرة، فأنا أحب الكلام، ولي قدرة قوية على تقليد الناس، وذاكرتي جيدة أيضاً، فإذا حكى أحد أمامي حكاية مصحوبة بالمُصَفِقات (1)، أحفظها من أول مرة.  فكان من الطبيعي أن أشعر بالكبت، بالإضافة إلى افتقاد هذا الدماغ الذكي إلى فرصة التعليم، واشتغاله بالحرث. إذا لم تهتم بالمزروعات فستنمو أعشابٌ برية، هكذا كان دماغي، مليئاً بالأعشاب البرية.
أعود إلى الحديث عن أحوال أسرتي. إن عائلتي عائلة ريفية كبيرة نسبياً، وقد تلقى والدي في المجتمع القديم، تعليماً ضئيلاً في كُتَّاب لبضع سنين (2)، ولذلك فهو يُعتبر مثقفاً في القرية. إن رأس والدي المليئة بالأفكار الإقطاعية التقليدية، جعلت هذه العائلة محافظة وصارمة جداً. عندما تزوج والدي وعمي، أنجبا الكثير من الأبناء، حتى يحققا أمنية جدي وجدتي، عندما وصل عدد أفراد العائلتين إلى ثلاثة عشر فرداً، لم يقسموا أملاك الأسرة للاستقلال في المعيشة. كان في العائلة الكثير من الأطفال، وكلٌّ من الأحفاد والحفيدات له مكان مختلف في قلب جدي وجدتي. هذا النوع من المعيشة، جعلني أشعر بالكآبة تجاه هذا العالم، جعلني أشعر بالظلم الذي يقع على الفقراء والمعاملة التي يُعاملُ بها الآخرون، لكونهم أغنياء وذوي نفوذ، أما السبب الأهم لشعوري بهذه الكآبة، فهو الفقر المدقع الذي كنا نعيش فيه.
بعد اندلاع الثورة الثقافية، أُجبرت على ترك المدرسة، السبب الأول هو الانتماء الطبقي، السبب الثاني هو تمردي على المدرس المسئول وإغاظته. في ذلك الوقت، كان هناك قانون عجيب: أبناء الفلاحين الأغنياء، يُسمح لهم باستكمال الدراسة حتى حصولهم على الشهادة الابتدائية، أبناء فلاحي الطبقة الوسطى، إذا كان أداؤهم جيداً، يُسمح لهم باستكمال الدراسة حتى حصولهم على الشهادة الإعدادية، فقط أبناء الفلاحين الفقراء من الطبقة الوسطى، يمكنهم استكمال جميع المراحل الدراسية. وفي الحقيقة، لم يحدث هذا، فمَنْ كان يستطيع إكمال مراحله الدراسية، هم أبناء موظفي الحكومة فقط. أنا أعتقد أن أكثر أمر قاسٍ في الثورة الثقافية، هو تجريد الأسر التي انتماؤها الطبقي متواضع من حق تعليم أبنائها. بعد ترك الدراسة، تولدت علاقة متينة بيني وبين الطبيعة. عندما كان باقي الأطفال في المدرسة يتعلمون، كنت أرافق الغنم والبقر وأتحدث معها، وقد جعلتني هذه التجربة منعزلاً، إنطوائياً، أخاف من مقابلة الناس، ولا أستطيع التعبير عن نفسي، وإذا صادفت مشكلة أو أي أمر فإنني أكون هيَّاباً شديدَ الحذر. بالطبع إذا أصبحت كاتباً، فيمكنك تخفيف هذا النوع من الألم بالكتابة، والتعويض على نفسك، لكنك إذا لم تكن كاتباً، فسيصبح الألم الذي عانيته أشد ممّا سبق. سألني شخص من قبل، إذا عدنا بالزمن إلى الوراء، هل ستختار أن تصبح كاتباً، أو تختار أن تعيش طفولة سعيدة، فأجبت بلا تردد، بالطبع سأختار أن أعيش طفولة سعيدة.

شي يي لونغ:
بين حضارة المدينة وثقافة الريف، كانت أعمالك دائماً ترتبط ارتباطاً وثيقاً بثقافة الريف، ودائماً تحاول إظهار الفرق بين المدينة والريف، ومن خلال ذلك تعود بنا إلى جمال البيئة الريفية وصفائها. فماذا عن تأثير حياة المدينة وحياة الريف على إبداعك؟
مويان:
تبدو حضارة المدينة وثقافة الريف مُتعارضتين، لكن لديهما في الحقيقة بعض القواسم المشتركة. فلماذا تبدو هذه المشكلة بهذا الوضوح في الصين؟، لأنه بعد تحرير الصين، كانت توجد ثلاثة فروق أساسية في المجتمع، من بينها الاختلاف بين المدينة والقرية. في الستينات، عندما نُقِلت كوادر من الشباب إلى الريف، فهموا بشكل حقيقي ما أعنيه بالاختلاف بين المدينة والقرية، إنه كاختلاف الجنة والنار. ولهذا، فنحن بالمعنى قد أطحنا بالاستغلال والطبقية، لكن الفرق بين الفلاح والعامل وموظف الحكومة، يشبه إلى حد كبير الاختلاف بين الفلاح الفقير وبين ملاك الأراضي في الماضي. فالعامل الشاب يكون له مرتب، وبعد التقاعد له معاش، ومهما حدث في الشهر من كوارث ومصائب فإن له راتباً ثابتاً، عندما يمرض يتوفر له علاج طبي مجاني. بالطبع موظف الحكومة يتقاضى راتباً أعلى وله مميزات أكثر. لكن لننظر إلى الفلاح، إذا لم يقبض يوميته، فإنه يموت من الجوع، إذا مرض وليس لديه مال كاف للعلاج، فمن الأفضل له الجلوس في المنزل وانتظار موته. نظرياً، الناس متساوون، لكن في الحقيقة هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. ولأن الصين لديها هذه الخلفية، فقد ظهر شكل من المواجهة بين حضارة المدينة وثقافة الريف، ودفع ذلك الكثير من الكُتَّاب، ومن ضمنهم كُتَّاب تيار الشباب المتعلم (3)، إلى إظهار هذه المواجهة العنيفة بين المدينة والريف. ظهرت هذه المواجهة في الاستهجان، الإعجاب، الغيرة، والحقد الذي يظهره أهل الريف لأهل المدينة ـ آكلي الحبوب التجارية ـ (4)، كما يصفونهم، على الجانب الآخر أظهر وصف “آكلو الحبوب التجارية” أهل الريف بمظاهر التخلف، الجهل، والنظرة المحدودة، وهذا كله بسبب الاختلاف بين الريف والمدينة. وهناك العديد من الأعمال الإبداعية التي بيَّنت تماماً هذه الأمور، وبالنسبة لي، كان هذا الاختلاف من الأشياء التي أثرت علي كتاباتي بشكل كبير. إذا بقيت في الريف، ولم أذهب للعيش في المدينة لبعض الوقت، فموقفي كان سيكون مثل أهل الريف، والأرجح أنني لم أكن لأستطيع أن أكتب أعمالاً كهذه.
إنني أعتبر نفسي فلاحاً هارباً من الريف إلى المدينة، ولأنني أمتلك خبرة في حياة المدينة، أعود للوراء وأقارن بين حياة المدينة وحياة الريف. إن كتابتي عن الريف، وكوني فلاحاً أمران مختلفان. إنني فلاح، ولدت في الريف، وجذوري هناك، وحضارة المدينة تسبب لي تضارباً في كثير من الأوقات، ولا أستطيع أن أحذو حذو الكاتبة (وانغ آن يي) عندما كتبت عن شانغهاي، وأكتب عن بكين، ليس لأنني لا أريد أن أكتب عنها، ولكن لأنني لن أستطيع أن أكتب عنها، وعليَّ فقط أن أبحث عن طريق في المنتصف.
شي يي لونغ:
لقدقلت من قبل، إن التحدي الأساسي لأي كاتب هو القدرة على التخيل، أو القدرة على تمثيل الواقع.
مويان:
إنالقدرة على التخيل هي شيء أساسي بالنسبة لأي كاتب. إن المُخيِّلة هي القدرة على استيعاب ما تمتلكه من أشياء، كل ما تمتلكه من صور، وخلق شيء مختلف كلياً، وفي الحقيقة، القدرة على التخيل هي نوع من الإبداع. وبالطبع، تحتاج القدرة على التخيل إلى الاستعانة بلغة استثنائية، شيءٍ ما يربط بين اللغة وبين الصور، أي شيء تريد تخيله يحتاج إلى هذا النوع من اللغة كأداة. إن قدرة الكاتب على التخيل سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، وقدرته على استخدام هذه اللغة سواء أكانت قوية أم ضعيفة، بينهما علاقة. والكاتب الذي لا يمتلك لغة قوية استثنائية لا يمكنه أن يمتلك قدرة غنية على التخيل. وإلى الآن، مازلت أعتقد أن القدرة على التخيل هي من أهم مميزات الكُتَّاب المهمة والنادرة.
شي يي لونغ:
لقد عانيت في طفولتك من الفقر والجوع والشعور بالإهانة، لكننا نرى في أعمالك نوعين من المشاعر، الأول هو الشوق إلى قريتك، والثاني هو الشكوى والتذمر منها. وحالما تطأ قدماك قرية غاومي، تدخل في الحال إلى أرض (الذرة الرفيعة الحمراء). لقد أصبحت الكتابة عن مسقط رأسك علامة مميزة، ونوعاً من تخطي الحدود، وفي كل تعبير في كتاباتك، يهيم مسقط الرأس بانسيابية في روح القارئ. ماذا يعني لك مسقط الرأس؟ ماذا تعني لك قرية غاومي؟
مويان:
فيمقدمة رواية (الذرة الرفيعة الحمراء) كتبت عن علاقتي بقرية غاومي، وقلت، إنني ولدت فيها، وكبرت فيها، فارتباطي بهذا المكان كارتباط اللحم بالدم. لقد أنجبني والديَّ في هذه الأرض، وخطواتي الأولى كانت في هذا المكان. مهما كان هذا المكان فقيراً، ومقفراً وموحشاً، ومهما كان موظفو هذه القرية مستبدين، ومهما كان سكان هذه القرية جهلاء، فإنني وبصفتي إبناً بعيداً لهذه القرية، وفي اللحظة التي تطأ قدماي هذه الأرض، تجيش عواطفي وأشعر بالشوق إليها. وهذا النوع من الأحاسيس لا يمكن أن يتولد تجاه مكان آخر، وهذا ما يُسمَّى بقوة وتأثير مسقط الرأس.
ويُعتبر الوطن أو مسقط الرأس شيئاً مهماً بالنسبة إلى الكُتَّاب. قال (يوي هوا) إن الكتابة هي العودة إلى مسقط الرأس، وقلت أنا مثل هذا الكلام. في عام 1984 وقبل التحاقي للدراسة بالأكاديمية الثقافية لجيش التحرير الشعبي، لم أجد ما أكتب عنه، وكنت أمضي معظم الوقت في محاولة لتجريب الحياة، أقلِّب الصحف، أقرأ الدراسات والمقابلات، وأحاول بكل الطرق أن أبحث عن قصة تهزني. حتى كتبت جزءاً من رواية (الفجل الشفاف)، وعندما كنت أرجع بذاكرتي إلى الوراء، وأتذكر طفولتي، وأتذكر حياتي في قريتي، أشعر وكأن باباً فُتِح وانساب من خلاله نهرٌ جارٍ، وكانت الأفكار تتدفق هكذا. إن ذكريات مسقط الرأس، والمشاعر التي تصاحب هذه الذكريات هي الكنز الثمين لأي كاتب، لماذا؟ أولاً: ارتباط مسقط الرأس الوثيق بالأم، ثانياً: ارتباط مسقط الرأس بذكريات الطفولة، وثالثاً: ارتباط مسقط الرأس بالطبيعة. بالطبع هناك علاقة بين الكُتَّاب الذين يعيشون في المدينة وبين الطبيعة، فكُتَّاب المدينة لهم مسقط رأس أيضاً، كالكاتب (شي تيا شينغ) في (أنا وحديقة دي تان) ـ (5). لكن الطبيعة لا تتمثل كما نراها في الجبال والأنهار والعشب. وإنما يمكن أن تكون في نظرهم حديقة، أو شارعاً. إذا كانت الكتابة الإبداعية تحتوي على براءة واهتمامات الطفولة وعبثها كعناصر ستكون جيدة. وأنا أعتقد أن المعنى الذي يمثله مسقط الرأس للكاتب كما قلت: الأم، الطفولة والطبيعة.
شي يي لونغ:
هلالعلاقة الحميمة بينك وبين الطبيعة نابعة من طفولتك في القرية، وهل مثل هذه التجربة قادرة على فهم العالم الداخلي للإنسان؟
مويان:
قدتكون هذه الطريقة في الوصف بها شيء من المبالغة، لقد قلنا منذ قليل، في الحقيقة كل شخص لديه نوع من العلاقة مع الطبيعة كالكاتب (شي تيا شينغ) في (أنا وحديقة دي تان)، يبدو كأن صبياً من بكين يكتب عن حديقة في بكين، لكن هذه الحديقة بالنسبة لـ ( شي تيا شينغ) هي طبيعة. كل كاتب له طريقته في التفاعل والتواصل مع الطبيعة. أنا على سبيل المثال، باعتباري عشت طفولة منعزلة، وكنت أرافق الغنم والأبقار معظم الوقت، ولم يكن لدي أي شكل من أشكال التواصل مع العالم الخارجي. فقد كنت أقضي ستة أشهر من السنة في أرض مقفرة، برفقة الماشية، والطيور والأعشاب، ولذا فإن مخيلتي ونظرتي عن الطبيعة تختلف عن الكُتَّاب الآخرين، ولعلَّ هذا هو السبب في وجود رائحة الماء والعشب الأخضر في معظم رواياتي.!
شي يي لونغ:
لقدأعجبتني كثيراً مقدمة المجموعة القصصية (القطن الأبيض) كانت بدايتها: “الروح التي لا يمكن الإمساك بها”: إنني أحاول قدر المستطاع انتظار الحظ السعيد، إن كتابة الرواية أشبه بالروح. يمكن أن تجعليني أصل إليكِ ذات يوم.. أو يمكنني الانتظار إلى الأبد وعدم الوصول إليكِ.. لكن إذا استطعت الوصول إليكِ ذات يوم، ربما سأهدأ قليلا”. عشر سنوات مرت في لمح البصر، وحتى الآن لا أعرف ما هي وجهة نظرك الجديدة عن كتابة الرواية؟
مويان:
حينما تطلب مني أن أكتب وجهة نظري في كتابة الرواية، فكأنك تريد قتلي، إلا أن هناك بعض الكُتَّاب الذين يستطيعون بكفاءة أن يكتبوا وجهات نظرهم بطريقة مرتبة متسلسلة، أما أنا، فلا أملك هذه القدرة. لكن إذا أُجبرت حقَّاً على كتابتها، فستراني أتخبط في الكلام تخبطاً عشوائياً، وأكتب كلاماً في ظاهره صحيح ولكن باطنه خاطئ، أضف إلى ذلك أنه سيكون غامضاً مبهماً، كما أنني لن أفهم من أين أتيت بهذا الكلام. لقد قلتُ من قبل، إن الرواية تشبه البيضة، والكاتب هو الذي يضع هذه البيضة. إذا سألت دجاجة لماذا تضع البيض، وماذا يحدث في بطنها من تفاعلات كيمائية وفيزيائية، وما نوع المياه التي شربتها، وما هي نوع النخالة والذرة الرفيعة المقشرة التي تناولتها، فسيكون هذا سؤالاً مؤلماً للدجاجة. وهذا بالنسبة لي يعادل جعل كاتب يحلل القواعد التي اتبعها في كتابة روايته، مؤلمٌ جداً. وكلما كانت وجهات النظر غامضة، كلما لا يمكن الوثوق بها، حتى الكاتب الذي لديه القدرة على كتابة هذا النوع من وجهات النظر المبهمة، على الأرجح سيفيد كلامه النقاد، أما القارئ، فلن تفيده وجهات النظر في شيء. إن وجهة نظري في كتابة الرواية ليست واضحة حتى الآن، وتبعاً لتطور الرواية، فإن ما يؤثر في صورة أو لوحة، هو تفصيل يهز الروح، تعبيرٌ دقيق على وجه شخص، أو عبارةٌ جميلة.
شي يي لونغ:
إنلغة رواياتك شكَّلت أسلوباً ذاتياً جديداً، طبيعياً واستثنائياً، هل تستطيع أن تحدثنا عن رأيك حول لغتك المستخدمة في أعمالك؟
مويان:
عندما كنت طالباً في الأكاديمية الثقافية لجيش التحرير الشعبي، كانت هناك مناقشة بين المدرس المسئول السيد (شيوي هواي تشوانغ)، وزميلي (لاوي دوا) عن اللغة الروائية، وقد شبَّها هذه اللغة بأنها كالغدد الصماء للكاتب. ويمكن من خلال اجتهاده أن يُكسب لغته طابعاً جديداً، إلا أن القاعدة الأساسية للغة تكون موجودة بشكل فطري عند الكاتب، أو تكون عاملاً مُكتسباً، أو أن تكون نتيجة للبيئة التي عاش فيها في طفولته، والطبقات المجتمعية التي احتك بها، أو التعليم الذي تعلمه، كل هذا يمكن أن يؤثر في طابع لغته. أما بالنسبة إلى لغتي في الرواية، ففي منتصف الثمانينات، كتب (جي هونغ شين) تحليلاً دقيقاً بعض الشيء، أولاً: أن الكثير من اللغة الدارجة والحكايات الشعبية دخلت اللغة الفصحى، ثانياً: الحصول على الكثير من المفردات من كتب قديمة كلاسيكية كـ (رواية الممالك الثلاثة)، والأعمال المكتوبة بالأسلوب الصيني الكلاسيكي، وأيضاً الروايات المترجمة. والآن، يمكن إضافة المفردات المستمدة من المسرحيات الشعبية. وهناك علاقة وثيقة للغاية بين المسرحيات الشعبية واليوانتشيوي (6)، ودائماً ما يظهر اليوانتشيوي في رواياتي، كرواية (الموت في غابة الصندل)، التي تحمل في طياتها تأثير المسرحيات الشعبية بشكل كبير. وأنا أعتقد أن اللغة بالنسبة للكاتب، هي نوع من الخليط والمزيج من أشياء كثيرة، وليست شيئاً صافياً خالصاً.
شي يي لونغ:
هليمكنك الحديث عن تأثير والدتك في حياتك؟
مويان:
عندما كان عمري سبع أو ثماني سنوات كان جدي وجدتي وعمي وعمتي يعيشون في منزل واحد. وكان جدي وجدتي يعاملون الأحفاد بتمييز واضح وبدون عدل، وكنت أنا من الأحفاد الذي لا يحظون بالكثير من الحب والاهتمام. في أحد الأيام، ذهبت والدتي إلى بيت أمها، ولم تعد إلى المنزل حتى وقت متأخر، فذهبت أنا وأختي إلى الحاجز النهري القريب من المنزل وشرعنا في البكاء، ورفضنا العودة إلى المنزل. ولأن والدتي لم تكن في المنزل، فلم أكن أشعر أنا وأختي بالحماية والأمان، وقد جعلونا نشعر بالخوف. إن والدتي من حيث البنية، نحيلة هزيلة، وقصيرة، وقدماها صغيرتان، لأنها تتحمل أعباء الأسرة الثقيلة للغاية، وتحمل مسئولية حمايتنا. عندما كنت في السابعة، ظَهَرَ على فخذي بعض التقرحات، فحملتني والدتي على ظهرها وذهبت بي إلى الطبيب لمعالجتي باستخدام الحجامة الصينية. لقد قضت أمي حياتها في الشقاء والعناء طوال الوقت. عندما كان عمرها ثلاث سنوات توفيت والدتها، فربتها عمتها. وفي الرابعة من عمرها بدأت باستخدام لفائف القدم (7)، ومنذ أن تزوجت في السادسة عشر من عمرها لم تتوقف عن الإنجاب. وفي ذاك الوقت، فإن الأسر الإقطاعية لم تكن تدخر جهداً في استهلاك زوجات الآباء، فكانت تقوم بكل الأعمال المنزلية، وفي الأوقات العصيبة والمرض تكافح بجهد ومشقة. وبسبب ذلك، فقد أصبحت مريضة معظم الوقت، لأنها كانت تعمل مثل الحمار الذي يدور بالطاحونة، وعندما كانت تجوع كانت تأكل الحبوب كغذاء، مما سبب لها أمراضاً في المعدة.
شي يي لونغ:
قامالكاتب الياباني الحاصل على جائزة نوبل (كينزا بورو أوي) بزيارة إلى الصين في وقت سابق، وأجاب على أحد الأسئلة التي طرحها أحد الأصدقاء على شبكة الإنترنت قائلاً: “إن أعمال مويان ممتازة للغاية سواء القصص القصيرة أو الروايات، وبالأخص أعماله الأولى مثل (الذرة الرفيعة الحمراء) وغيرها”. أما أنا فأعتقد أن أعمالك الأولى مثل (النهر الجاف)، و(أرجوحة الكلب الأبيض)، وغيرها قد دخلت قائمة أفضل الأعمال الإبداعية في العالم. كيف ترى إبداعاتك الأولى من قصص وروايات؟
مويان:
إن السيد (كينزا بورو أوي) يعاملني بكل الاحترام، ولعلَّه قرأ رواية (الذرة الرفيعة الحمراء) وأعجبته، وإذا قرأ (النهر الجاف)، و(أرجوحة الكلب الأبيض)، فأعتقد أنها ستعجبه. كتبت هذه الأعمال أثناء دراستي في الأكاديمية الثقافية لجيش التحرير الشعبي عامي 1985 و1986، وكانت هذه الأعمال ذورة أعمالي الإبداعية في ذلك الوقت. والآن أعود إلى الوراء، وأندهش من نفسي، ومن مدى الإلهام الذي ساعدني على كتابة أعمال كهذه. ولكن هل دخلت هذه الأعمال في قائمة أفضل الأعمال الإبداعية العالمية أم لا، فهذا ليس مقياساً، يمكن أن يكون هذا رأيك، وأنا لا أستطيع أن أعارضك، وهناك آخرون قد يرون أن هذه الأعمال كومة من براز الكلاب، وأنا لا أستطيع أن أقول إنهم ليسوا على صواب.
شي يي لونغ:
كمعدد الأعمال التي تُرجمت إلى لغات أخرى، وكيف كان رد فعل القراء على هذه الأعمال؟
مويان:
تُرجمترواية (الذرة الرفيعة الحمراء) وراية (أنشودة الثوم الفردوسي) إلى أكثر من عشر لغات أجنبية، من أهمها، الانجليزية، الفرنسية، الروسية، الألمانية، اليابانية، الإيطالية، والسويدية وغيرها. أما (مملكة الخمر) فقد تُرجمت إلى خمس أو ست لغات، وتُترجم الآن “عام 2007” إلى اللغة السويدية. أما رواية (ثلاث عشرة خطوة) فلها ترجمة فرنسية، ورواية (أثداء كبيرة وأوراق عريضة) لها ترجمة يابانية، وتُترجم الآن “عام 2007” إلى الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية. وهناك بعض القصص القصيرة تمت ترجمتها أيضاً.
كان رد الفعل جيداً. إن الأدب الصيني بدأ تدريجياً في جذب أنظار الساحة الأدبية العالمية، وأشعر أنه سينال إعجاب واهتمام عدد كبير من القراء في الغرب، وقد تحرر الأدب الصيني من اقتصاره على فئة الباحثين فقط، ليشمل القراء أيضاً. وبدأت بعض دور النشر التجارية بإصدار قصص وروايات لأدباء وكتاب صينيين، وكانت هذه الأعمال تذهب من قبل إلى مراكز الأبحاث ودور النشر الخاصة بالجامعات، كمادة للقيام بالأبحاث، لكن الأوضاع تغيرت الآن.
شي يي لونغ:
لقد زرتَ العديد من البلدان، مَنْ هم الكُتَّاب الصينيون الذي يعرفهم الناس؟
مويان:
مازال(لوشون) و(شن سونغ ون)، و(تشانغ آي لينغ)، من أكثر الكُتَّاب الصينيين المعروفين، يأتي بعدهم (وانغ مينغ)، و(تشانغ شيان ليانغ)، و(لو ون فو)، بعدهم يأتي الأصغر قليلاً في السن ومنهم أنا و(تسان شوي)، و(سوتونغ)، و(هان شاو غونغ)، و(تشانغ وي)، و(وانغ آن يي)، و(يوي هوا) وغيرهم، ثم يأتي الأكثر شباباً ومنهم (وي هوي)، و(ميان ميان) وغيرهم.
شي يي لونغ:
فيضوء الكثير من المقالات النقدية التي كُتِبَت حول أعمالك، من برأيك من النقاد له نظرة ثاقبة، ومن كانت نظرته بعيدةً بعض الشيء، وكيف ترى تقييم الكُتَّاب لأعمالك؟
مويان:
إنتقييم النقاد لأعمالك، ما هو إلا مدح لك، وأنهم يقدرونك، ويجب أن تشعر بالفخر لأن أعمالك أثرت فيهم. ويجب أن تشكر هؤلاء النقاد الذين بذلوا جهداً من أجلك. أما فيما يتعلق بأكثر المقالات التي أقنعتني، فأعتقد أن سلسلة المقالات التي كتبها (جي هونغ شين) في السابق كانت جيدة جداً، وقد بذل فيها جهداً كبيراً، وفي الحقيقة أنه شكَّل نظاماً جمع فيه كل الصفات التي تميز أعمالي. وهناك أيضا السيد (تشو شيانغ تشان) في الكلية الذي كان يتابع خطواتي في الكتابة الإبداعية عن كثب، وقد لمس في كتاباتي شيئاً مختلفاً غير معظم الكُتَّاب، كما أنه كتب مقالاً نقدياً في السابق حول روايتي (أرجوحة الكلب الأبيض). وكتب (تشانغ شي تشونغ) في الثمانينيات (بحث حول مويان)، وكان يمكن لهذا البحث أن يشكل كتاباً نقدياً، ولا أعتقد أنه كان سهلاً عليه، فقد قام بقراءة كل أعمالي.
شي يي لونغ:
أريد أن أسأل، هل مفهوم الأدب العسكري مازال موجوداً في ضوء تطور الأدبي الصيني المعاصر؟، وهل استطاع الانسجام مع الأسلوب الأدبي، أم انسحب بهدوء وفقد اتجاهه في السنوات القليلة الماضية؟
مويان:
إنمفهوم الأدب العسكري ظهر بسبب وجود كُتَّاب في الجيش. ومتى لا يكون هناك مبدع أو كاتب، يكون هذا المفهوم ضبابياً، مبهماً بعض الشيء. ويوجد الآن هذا النوع من الأدب، فقط إذا كان كاتباً موجوداً في الجيش، فسيندرج أدبه ضمن الأدب العسكري، أو يمكن القول بطريقة أخرى، إذا وِجِدَ كُتَّابٌ في الجيش، فسيوجد أدب عسكري.
شي يي لونغ:
أينيقع الأدب العسكري في القرن العشرين بالنسبة للأدب الصيني؟
مويان:
إنالأدب العسكري في القرن العشرين يحتل مكانة بارزة للغاية. إن سبعين أو ثمانين بالمائة من الأعمال الأدبية التي ظهرت قبل سبعة عشر عاماً من الثورة الثقافية كانت كلها تدور حول الشئون العسكرية، أما الأعمال التي تتحدث عن البيئة الريفية فلم تكن كثيرة، حتى رواية (عاصفة هوجاء) لـ (تشو لي بو)، كان تمتلئ بالكثير من التفاصيل العسكرية. في ذاك الوقت، كان الشكل الذي يستخدمه الكاتب يحدد ملامح العمل الإبداعي كلياً، كما أن كثيراً من الكُتَّاب كانوا من عائلات عسكرية. بعد الثمانينات، تغير الوضع تماماً، وقلَّت أعمال الأدب العسكري.
شي يي لونغ:
ما هي وجهة نظرك في النثر الفني؟
مويان:
النثر الفني سهل، ويستطيع الكاتب أن يكتب على هواه، وإذا أحسن التعبير عن مشاعر الفرح والغضب واللهو والسخط ونسقها بشكل جيد في مقال، فسيكون نثراً جيداً. أما بالنسبة لموضوع الصدق والأمانة في النثر الفني، فأنا أعتقد أنه بالفعل يوجد الكثير من القصص والروايات المكتوبة بأسلوب النثر الفني، والعكس، أي يوجد نثرٌ قصصي.
شي يي لونغ:
برأيك ما هي المكانة التي يحتلها الأدب الصيني تقريباً في العالم؟
مويان:
لقدأدركت أن مكانة الأدب والكُتَّاب لأي بلد، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقوة الاقتصادية والقوة العسكرية لهذا البلد. فعلى سبيل المثال، لو كان بلدك دولة ضعيفة، فلن يجذب إبداعك الآخرين، والعكس صحيح، فإذا كان بلدك دولة قوية، فالأدب والكُتَّاب والأدباء سوف يجذبون اهتمام الكثيرين. ومع الدور المهم الذي تلعبه الصين في الشئون الدولية يوماً بعد يوم، وارتفاع القوة الاقتصادية لها، وأضف إلى ذلك بالطبع الجهد المبذول من قبل الكُتَّاب والأدباء الصينيين خلال فترة طويلة، أعتقد أن الصين تخطو الآن خطواتها وتدخل في دائرة الأدب العالمي.  ومن ناحية أخرى، فعلى الرغم من الثورة الثقافية وما عاناه الكُتَّاب الصينيون من صعوبات في الكتابة والإبداع، فإن أدبنا الصيني هو جزءٌ من مكونات الأدب العالمي، وما يُسمَّى “بالأدب العالمى” له أيضاً معانٍ محددة.
شي يي لونغ:
يقول (Thomas Ing) ـ8في مقاله (Epic Novel: First Class Chinese Authors): إن مويان كاتب عالمي، ولعلَّه أكثر كاتب له مستقبل واعد بعد لوشون ولاوشه، لكن مويان أفضل من هذين الكاتبين، وبعد إصدار الترجمة الإنجليزية لرواية (الذرة الرفيعة الحمراء) التي كانت حدثاً عظيماً للأدب الإنجليزي، يمكننا التنبؤ بالأثر الذي ستحدثه الرواية الصينية في القرن  الحادي والعشرين. كيف ترى وجهة النظر هذه؟
مويان:
عندمايقتبس الكثير من أصحاب دور النشر هذه العبارة، فإنني أعارض بشدة. يمكن لهذه العبارة أن تُحدث أثراً سلبياً، وأن تجعل القراء يأخذون فكرة معينة عن مويان، وقد يعتقدون أنني مغرور، وسيقولون إنني لن أخرق الأرض ولن ألمس السماء (9)، وعلى الرغم من أن توماس إنج هو من قال هذا الكلام، لكنني لم أقله بنفسي. أعتقد أن هذا مديح مبالغ فيه، أولاً: على الرغم من الآراء الكثيرة التي قيلت حول لوشون ولاوشه، إلا أنهما سيظلان كقمم الجبال العالية التي لا يمكن لأحد أن يتجاوزها. وأعتقد أن المعيار الحقيقي لقياس مهارة أي كاتب، هو أن ترى عملاً ذا أسلوب استثائي له، ولوشون ولاوشه أبدعا أساليبَ مختلفة واستثنائية في الشكل الأدبي. إن الشكل الأدبي لأعمال لوشون، سيظل حتى لو مرت خمسون عاماً، أما أسلوب لاوشه في استخدام اللغة العامية لأهل بكين وتوظيفها بمهارة، فمازال رائعاً حتى الآن، وهذا دليل على أن مهارتهما لا يمكن تجاوزها، وأنا بالتأكيد لست مثلهما، حتى ولو حاولت جاهداً لمدة خمسين عاماً، فلن أستطيع أن أصل إلى مستوى أعمال لوشون، أما لاوشه، فيمكن بعد عشرين عاماً من الجهد أن أصل إلى مستوى جيد لأعماله. إن حركة الرابع من مايو (10)، عملت على تحويل الكتابة من الأسلوب الكلاسيكي إلى الكتابة باللغة الصينية الحديثة، فأي شيء يمكن تحويله إلى إبداع جديد. وتبعاً لتطور المجتمع إلى هذه المرحلة الذي عليها الآن، سترى في كل مجال تقريباً، دارساً أو باحثاً، بما في ذلك اللغة، فزمن تطور اللغة الصينية الحديثة يقارب المائة عام، قام خلالها العديد من الكُتَّاب بالكثير من التجارب، وجربوا كل أشكال اللغة والأساليب، لكن إذا أراد أحد أن يكون شخصاً بارزاً ويخلق لغة استثنائية، واضحة، جديدة، فسيكون صعبٌ جداً، وما أقصده هنا، هو أنه من الصعب إيجاد مُعلِّم ماهر. إذا كان عمري الآن مائة عام، فيمكن أن تطلقوا عليَّ لقب مُعلِّم، من حيث السن فقط يمكنكم أن تطلقوا عليَّ ذلك.
شي يي لونغ:
فيالسنوات الآخيرة زرت الكثير من البلدان، هل يمكن أن تخبرنا كيف يرى الكُتَّاب الغربيون الأدب الصيني؟ وهل ساهمت التبادلات الثقافية التي شاركت فيها في أعمالك؟
مويان:
إنمعرفة الكُتَّاب الغربيين بالأدب الصيني ضئيلة للغاية، يجب علينا أن نُقيِّم بواقعية تأثيرَ أدبنا في العالم الغربي. في بعض الأحيان، أجد بعض الكُتَّاب عندما يُعرِّفون بأنفسهم يقولون إنهم قد ألقوا محاضرات من قبل في جامعة كذا في أحد البلدان الأجنبية، وأنا أجد هذا مضحكاً جداً. لقد ذهبت إلى بعض جامعات الولايات المتحدة لإلقاء بعض المحاضرات، وكان عدد المستمعين المهتمين لا يتعدى مُسْتَمِعَين أو ثلاثة، هذا ما يُطلق عليه إلقاء محاضرة، أما الباقي فيكونون في الغالب أصدقاءهم. وحينما تفتح الكتاب لتبدأ في إلقاء المحاضرة تشعر بالخجل على الفور، فلا يوجد شيء يُشرح بشكلٍ جدي، لأنهم يمضون الوقت في الدردشة والحديث، ثم يخرجون لتناول بعض الطعام. في البداية ظننت أنني لا أملك تأثيراً كافياً، لكنهم قالوا لي إن هذا شيئاً جيداً، وإنني محظوظ بوجود هذا العدد. وأعتقد أن تأثير الأدب الصيني في الغرب ضعيفٌ للغاية في الحقيقة، وخاصةً أن جزءاً كبيراً من الكُتَّاب الغربيين ليسوا على دراية بالأدب الصيني بشكل واسع، ولا يعرفون الأعمال الإبداعية الصينية، على عكسنا نحن نقرأ ونعرف معظم الأعمال الغربية.
أما ما شاركت فيه من التبادلات الثقافية العالمية، وعلى الرغم من أنني كنت أشعر بالإحراج في معظم الأحيان، إلا أنها ساهمت بشكل إيجابي في عملي ككاتب، حتى أنني قابلت بعض الكُتَّاب والنقاد الغربيين، وبالطبع قابلت العديد من الناشرين، وبعض القراء الأساسيين في الغرب، كما أنني عرفت ما هو شكل الأعمال السائدة في الغرب، وما يحبه القارئ الغربي، وبالطبع فهمت بشكل أوضح ما هو الاختلاف بيننا نحن الكُتَّاب الصينيين عن كُتَّاب الغرب. أنت تستطيع الآن أن تكتب أعمالك بحرية وارتياح، وليس كالسابق، حين كان يجب أن تقلد الناس بشكل أعمى أو يُفرض نمط معين من الكتابة. وهناك بلا شك العديد من الكُتَّاب الذين لم يغادروا بلدهم، لكن ذلك لم يعرقل مسيرتهم الإبداعية، وهناك أيضاً من الكُتَّاب مَنْ يسافرون كثيراً، إلا أن أعمالهم تكون دون المستوى.
شي يي لونغ:
يمكنللأدب بصفته الأبدية أن يتخطى واقعنا، في رأيك ما مصدر هذا النوع من تخطي الواقع؟
مويان:
فيرواية (الفجل الشفاف) يوجد صبي أسمر ليس له اسم. هذا الصبي الأسمر يستطيع الحديث، ولكنه يتحدث قليلاً، وبالنسبة له الحديث عبءٌ ثقيل. يستطيع الصبي أن يتحمل من الشقاء ما لا يستطيع تحمله الآخرون، يمكنه ارتداء بنطال قصير في الشتاء، وأن يُبقى قدميه مكشوفتين، يمكنه أن يمسك الحديد الساخن، ويتجاهل الجروح على جسده. هذا الصبي لديه مُخيِّلة قوية، يستطيع أن يرى ما لا يراه الآخرون من أشياء رائعة وجميلة، يستطيع أن يسمع ما لا يستطيع الآخرون سماعه، كسماعه صوت خصلة الشعر التي وقعت على الأرض، يمكن أن يشم روائح لا يستطيع الآخرون شمها. بالطبع في رواية (أثداء كبيرة وأوراق عريضة)، يوجد هذا النوع من السمات والقوة الخارقة. إن الأدب موجود لهذه الشخصيات التي تحتوي على سمات غير عادية، ولهذا فالعالم الذي يبدو للناس عالماً عادياً، تراه هي عالماً غريباً فريداً من نوعه. ولهذا فإنه يستخدم عينيه لتوسيع رؤى البشرية، يستخدم تجاربه لإغناء تجارب البشرية، (هذا الصبي) هو أنا، لكنه خارق، هو شخص، ولكنه يتعدى ذلك. وفي ضوء تطور العلوم والتكنولوجيا، والروتين الذي يتكرر يومياً، فإن هذا النوع من التجاوز الظاهري، هو السبب الذي يجعل الأدب مستمراً وسيظل مستمراً.
ـ في العدد المقبل، المقابلة الثانية مع مويان بعد فوزه مباشرة بجائزة نوبل للآداب 2012.
 هوامش:
1ـ المُصفقات (قطع صغيرة من البامبو) مربوطة في خيوط يعلقها الراوي الشعبي في أصابعه، ويحركها فتصدر القطع ضربات إيقاعية سريعة تصاحب حكاية مُغنَّاة وتشكل معها (أوبرا صينية تقليدية)، وتشبه المُصفقات (الصاجات الصغيرة) في يد الراقصة الشرقية مع الاختلاف بالطبع بين الأداتين.
2ـ يقصد أن والده تلقى تعليماً بسيطاً في مدارس صينية تقليدية قديمة تشبه الكُتَّاب قديماً في العالم العربي.
3ـ (تيار الشباب المتعلم) حركة أدبية ظهرت عام 1983 من كُتِّاب كتبوا أعمالاً إبداعية عن حياة ومعيشة الشباب الذين كانوا يتلقون العلم في المدن، وتم إجبارهم على الذهاب إلى القرى والعمل فيها خلال الثورة الثقافية في الستينات من القرن العشرين الماضي، وبعد ذلك وسَّع الباحثون الصينيون مفهوم (تيار الشباب المتعلم) ليشمل جميع الأعمال الإبداعية التي كُتبت قبل الثورة الثقافية وخلالها أيضاً.
4ـ يقصد بتعبير (آكلو الحبوب التجارية) أن أهل المدن يشترون الحبوب التي يأكلونها ولا يزرعون تلك الحبوب مثل أهل القرية.
5ـ (دي تان) حديقة كبيرة في بكين، يُطلق عليها الصينيون اسم (معبد الأرض) وقد بُنيت عام 1530 في عهد أسرة مينغ، وكان أباطرة مينغ شينغ يقدمون فيها القرابين في مراسم الانقلاب الصيفي.
نوع من الأوبرا الصينية القديمة.
لفائف من القطن تُربط على قدمي الفتاة للإبقاء عليهما صغيرتين “الحذاء الصيني”
8ـ توماس إنغ، كاتب أمريكي والمقال المُشار إليه نشره الكاتب في: New York Times Book Review
9ـ تعني العبارة في اللغة الصينية ما تعنيه الآية القرآنية الكريمة (إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبالَ طولا) في وصف المغرور.
10ـ “حركة الرابع من مايو” حركة شبابية جماعية في الصين بدأت في 4 مايو 1919، وقادت حملة وطنية لاسقاط المجتمع الاقطاعي وتعزيز الأفكار العلمية والديمقراطية.

نشرت المقابلة في مجلة الإعلام والعصر – عدد إبريل 2013

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.