برج المظلات.. حينما يختار الشاعر طريقة انتحاره

برج المظلات.. حينما يختار الشاعر طريقة انتحاره
قصائد للشاعر الصيني الراحل: خاي زي
قدمت للقصائد وترجمتها عن الصينية: يارا المصري
من بين ثماني طرق للانتحار ذكرها خاي زي في قصائده، اختار أن يلقي بنفسه أمام قطار منطقة شان خان قوان، حيث كان يترك بكين محل دراسته ليذهب إليها، ويجلس على القضبان الحديدية للتأمل أو يتمشى بجانبها. كان ذلك يوم السادس والعشرين من شهر مارس عام 1989، حينما كان عمره خمسة وعشرين عاماً. هذا الشاعر.. الذي لم يفهمه الناس خلال حياته، والذي كان بطبعه شخصاً هادئاً يملؤه الشجن، “إنه ابن الظلام، يغرق في الشتاء، يحب الموت” كما وصف نفسه في آخر قصيدة كتبها قبل انتحاره.. اشتهر بعد وفاته واعتبر من أصغر الشعراء المؤثرين في تاريخ الأدب الجديد في ثمانينات القرن العشرين الماضي في الصين.
اسمه الحقيقي تشا خاي شينغ، ولد يوم الرابع والعشرين من شهر مارس عام 1964، في قرية قاو خي التابعة لمقاطعة آنهوي، عاش منذ صغره في الريف، والذي اتخذ منه خلفية لأحد أهم الموضوعات الرئيسة في قصائده، وفي عام 1979 حينما كان عمره خمسة عشر عاماً التحق بكلية الحقوق في جامعة بكين لدراسة القانون. وفي عام 1983 بعد تخرجه من الجامعة، عمل في قسم الفلسفة في جامعة الصين للعلوم السياسية.
بدأ خاي زي كتابة الشعر خلال دراسته الجامعية، حينما كان بعيداً عن مسقط رأسه، وأثرت تلك الفترة تأثيراً كبيراً في نفسه وانعكست بشكل كبير في قصائده التي نظمها حول الصراع بداخله والذي تمثل في حنينه إلى مسقط رأسه والكآبة التي كانت تغمره حينما يعود إليه، نظراً لظروف الصين أثناء سياسة الإصلاح.
يتحدث خاي زي عن “دخوله بهدوء في برج القفز بالمظلات” ويقصد به الانتحار من مكان مرتفع، منهياً حياته بهدوء وإن كان على سكة حديد، كما كثيرون لم يتحملوا وطأة الحياة، فجابهوا الحياة بالموت، وسطع نجمهم بعد ذلك، دلالةً على المأساة والإبداع والنفس الإنسانية الملتاعة.. وتالياً بعض قصائده التي تكشف عن نفسٍ قلقة، زادها قلقاً واغتراباً بعده عن مسقط رأسه، حيث كما نعلم جميعاً طمأنينة الرحم الأمومي الذي لا يدوم إلى الأبد.



في مواجهة البحر، وتفتح الأزهار الربيعية الدافئة[1]
من اليوم، سأكون إنساناً سعيداً
أُطعم الأحصنة، أقطع الأخشاب، أجول العالم
من اليوم، سأهتم بالحبوب والخضراوات
لدي منزل، في مواجهة البحر، وتتفتح عنده الأزهار الربيعية الدافئة
من اليوم، سأراسل كل أحبابي
وأخبرهم عن سعادتي
وما أنبأتني به تلك السعادة الخاطفة
سأنقله لهم
سأعطي اسماً دافئاً لكلِّ نهر وكلِّ جبل
أيها الغريب، أدعو لك بالخير أيضاً
أتمنى لكَ مستقبلاً مشرقاً
أتمنى أن يكون حبيبك عائلةً لك في النهاية
أتمنى أن تنال السعادةَ في الدنيا
أما أنا أتمنى فقط أن أكون في مواجهة البحر، مع تفتح الأزهار الربيعية الدافئة.
جواب[2]
يا حقل القمح
عندما ينظر إليك الآخرون
يشعرون أنك دافئٌ جميل
لكن أنا أقف وسط استجوابك المؤلم
تجرحني
أقف تحت أشعة الشمس اللاهبة وسط حسك القمح المؤلم
يا حقل القمح
أيها المُحقق الغامض
حينما أقف أمامك بألم
لا يمكنك القول إنني لا أمتلك شيئاً في هذا العالم
لا يمكنك القول إنَّ يديَّ فارغتان.
المياه تحتضن تشيو يوان[3]
أرفع مشعلاً، وأمسك الذي
يهبط في الماء
المياه تحتضن تشيو يوان: إذا وقع ذلك المشعل الذي يدق الباب في الليل في حضنك
فسينادي القبرُ الذي يقع وسط المياه مجموعات الأسماك
أريد أن أغادر جرةَ مياهٍ هادئة
يا جرة المياه المغرورة  
السيف مدفون أسفل عربة الجر
المياه تحتضن تشيو يوان: عينان تلمعان كالنار
أعلى المياه مجموعاتُ خرافٍ عمرها آلاف السنوات
في تلك اللحظة سمعت أنَّ العالمَ جميلٌ كلوحة
المياه التي تحتضن تشيو يوان هي أنا
بقايا كهذه يصعب انتشالها.
أنشودة منتحر
أهبط وسط مياه ما بعد الظهيرة
وترتفع ستائر النافذة شيئاً فشيئاً
يمتد غصنا شجرة
الجسد، أحجار الماء الكريمة
هما زجاجة مقسمة بالنصف
لا يمكن للماء في الزجاجة أن ينقسم
أن تهبط على فأس
كأنك تهبط على قيثارة
وهناك الحبل أيضاً
مُلتفٌ أسفل السرير
تقطعك شمس الأحراج
كقطعها للرياح الجنوبية
فلتطلق النار، وتعود وحيداً إلى مسقط رأسك
كأنك حمامة
ترتمي داخل سلة قرمزية.
بحر شهر يوليو
يا أبناء قريتي مَن يستطيع أن يرى على صفحة المياه أنكم سعداء حقاً؟
لقد خان كلٌّ منا مسقط رأسه
وسنعتبر السعادة مهنة متوارثة
ونتخلى عمّا بين أيدينا من قصائد حزينة
إنَّ الموج عالٍ اليوم حقاً! يا أبناء قريتي إنه يعلو فوق صوامع حبوبكم
إذا توقفتُ عن الكلام إذا نَسيتُكَ بغير قصد
وتخليت عن مسقط رأسي
وكففت حتى عن العودة إلى بيوت الفلاحين
ففي شهر يوليو دائماً ما أعود فجأةً إلى القفر
وأدرك آخر مرة
أرتدي قبعة وملابس السباحة، وأموت بطمأنينة
في شهر يوليو دائماً ما أعود فجأةً إلى القفر.
برج القفز بالمظلات
أنا في أحد صباحات الشمال الموحشة
في أحد صباحات الشمال
أشتاق إلى شخص
أنا بعض مخطوطات شعرية
أنتِ قصيدة
أرغب في احتضان أزهار الأزاليا الحمراء التي تغطي الجبل
عندما دخلت بهدوء إلى برج القفز بالمظلات
أدركت بوضوح
أن أمامه نهراً كبيراً
ومرجاً شمالياً شاسعاً
الجمال دائماً يجعلني منتشياً
وكان هناك شخص بالفعل
قد بدأ ينير لي
على رصيف القطار المنعزل المزدحم
تكونين كالنجوم تضئ لي طريقي
أعلى هذا الجبل
لماذا أستطيع رؤية
زهرة أزاليا جميلة واحدة كهذه؟
أستطيع أن أرى زهرة واحدة فقط
وكانت بالفعل حمراء وجميلة
في هذه الليلة
أسكن في الجبل
في داخل المنزل
أمامي ماء نبع جارية
أو ربما صوت خرير جدول
برج القفز بالمظلات الهادئ
أيها المنزل المسحور افتح بابك
واجعلني للأبد أظل وسط هذا الباب السعيد
تلك القمم المتماوجة في الشمال
بعيداً
بها تسع زهرات فقط.
في الربيع، عشرة خاي زي[4]
في الربيع، يعود عشرة خاي زي إلى الحياة من جديد
تحت المشهد الساطع المضيء
يسخرون من هذا الـ خاي زي القاسي الحزين
ما سبب سباتك العميق الطويل بالضبط
في الربيع، يزأر عشرة خاي زي بصوت ضعيف
يحيطون بكَ وبي يرقصون، ويغنون
يشدون شعرك الأسود، يمتطونك ويركضون سريعاً، يثيرون وراءهم الغبار
الألم الذي مزّقك يملأ الأرض
في الربيع، خاي زي القاسي الحزين
يتبقى منه ذلك الشخص، آخر شخص
إنه ابن الظلام، يغرق في الشتاء، يحب الموت
لا يجد راحة لنفسه، يحب القرية الجوفاء الباردة
الحبوب هناك تتكدس أكواماً، تحجب النافذة
نصف منها يذهب إلى أفواه عائلة من ستة أشخاص، للأكل
والنصف الآخر للزراعة، ما ينمونه بأنفسهم
تهب الرياح القوية من الشرق إلى الغرب، تعصف من الشمال إلى الجنوب، تتجاهل الليل وبزوغ الفجر
ذلك الفجر الذي ذكرته من قبل أي معنى يحمله بالضبط.

[1] ـ “كتب خاي زي هذه القصيدة في الثالث عشر من يناير عام 1989، وبعدها بشهرين، انتحر بإلقاء نفسه أمام قطار منطقة شان خان قوان”
[2] ـ“في النص الأصلي تتكرر كلمة.. الألم.. أكثر من مرة، وقد آثرنا ترجمتها كما هي بدون مرادفات من اللغة العربية، تأكيداً كما قال شارحون لهذه القصيدة في اللغة الصينية على شعور الشاعر بالألم والمعاناة”
[3] ـ ذكر خاي زي في قصائده ثماني طرق للانتحار، من بينها الغرق في البحر أو النهر، والقفز من مبنى، أو الانتحار شنقاً، أو بإطلاق الرصاص، وهذه القصيدة وما بعدها تتحدث عن هذه الطرق.
[4] ـ  “في الربيع، عشرة خاي زي”.. كانت آخر ما كتب خا زي قبل انتحاره.

نشرت في مجلة رؤى الثقافية
عدد مايو- يونيو 2014



اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.